أمة «اقرأ» تهجر خير جليس.. وتهرب إلى «العالم الافتراضي»
تحقيقات
31 ديسمبر 2015 , 01:57ص
محمد سيد احمد
عبّر مواطنون ومقيمون عن صدمتهم من تراجع قيمة الكتاب لدى النخبة المتعلمة وعامة الناس في العالم العربي، وعزوف أمة «اقرأ» عن القراءة التي تعد العمود الفقري لنهضة الأمم، داعين إلى البحث عن أسباب هذا الخلل وإصلاحه حتى لا يأتي اليوم الذي يعم فيه الجهل والتخلف، وحتى تستطيع الأمة جسر الهوة السحيقة التي تفصل بين أبنائها وبين أبناء الأمم المتقدمة في مجال معدل القراءة السنوي الذي يكشف عن فارق فاضح يجعل العربي يخجل من نفسه ثقافيا.
فالكتاب لم يعد خير جليس كما كان لدى أمة العرب التي تعاني من تراجع خطير في مستوى القراءة والمطالعة، ومستوى التأليف، ولم تعد القراءة ميزة عند شباب العرب وتراجع ترتيبهم في قائمة ساعات القراءة لدى الشعوب، مما يضع علامة استفهام كبيرة حول مستقبل الأمة الثقافي والحضاري، فكلما تقدمت البشرية خطوة إلى الأمام علميا وحضاريا ومعرفيا بفضل الثورة الرقمية والتكنولوجية كلما تراجع العرب خطوات إلى الوراء في هذا المجال رغم فائض الوقت الذي يمتلكه العربي، سواء في المجتمعات العربية الفقيرة، أو تلك التي تملك حظا من المال.
وبات من المألوف رؤية المكتبات ودور الثقافة شبه مهجورة إلا من أشخاص يعدون على رؤوس الأصابع، أغلبهم من طلاب الجامعات الباحثين عن مصادر يستعينون بها في أبحاث تخرجهم، أما أن تجد النخبة العربية أو المهتمين بالشأن الثقافي في هذه المكتبات يطالعون ويساعدون الباحثين في مهمتهم فذلك ضرب من خيال، فأماكن اجتماع النخبة العربية هي المطاعم والمقاهي ومزاحمة العامة على التسكع في المجمعات التجارية والأماكن العامة، وهو ما ولد حالة من هجران الكتب وتراجع قيمتها، فالاهتمام إذا لم يأت من أهل الاختصاص العارفين بقيمة الكتب لن يأتي من العامة التي تصبح وتمسي لاهثة خلف رغيف الخبز الذي تجد عنتاً في الحصول عليه.
وأرجع البعض الأسباب إلى عوامل اقتصادية واجتماعية، وإلى ثورة المعلومات ومخاطر وأضرار الثورة التكنولوجية وجانبها السلبي الذي شغل الناس عن القراءة، بينما رأى آخرون أن هذه الأسباب -وإن كان لها بعض من الوجاهة- إلا أنها ليست على إطلاقها، مستدلين بالشعوب المتقدمة التي هي من صنعت الثورة الرقمية ولديها بصمات واضحة في الثورة التكنولوجية، ومع ذلك يصنف أبناؤها ضمن معدلات المطالعة العليا، كما أن بعض الشعوب العربية لا تشتكي من قلة الموارد المالية ومع ذلك لا تختلف عن البقية في مجال المطالعة، وعزوا أسباب المشكلة إلى عدم تأصل ثقافة المطالعة والقراء لدى الأمة، وضعف مستوى الإعلان عن المؤلفين وإنتاجهم الفكري من جهة، وارتفاع أسعار ما ينتج عربيا من الجهة الأخرى.
مخاطر التكنولوجيا
يقول فهد عبدالعزيز إنه آن الأوان للاعتراف بمخاطر التكنولوجيا وجوانبها السلبية على حياة البشر الذين يزدادون جهلا يوما بعد يوم بسبب الأجهزة ووسائل التواصل الاجتماعي التي لم تعد تترك لأحد فراغا يقرأ فيه كتابا أو مطوية، حيث لم يعد الإنسان قادرا على مواصلة حياته بشكل طبيعي كما كان معتادا قبل أقل من قرن من الزمان، وأضاف: حقيقة لا يدري الإنسان أين تكمن مصلحته، والأغرب في هذا أنه كلما قطعت البشرية خطوات للأمام على طريق التقدم التكنولوجي، كلما تراجعت خطوات إلى الوراء معرفيا وثقافيا، وأمتنا العربية تحطم الرقم القياسي في السير السلبي إلى الوراء، فلم يعد الكتاب خير جليس رغم كثرة الكتب وتعدد المطابع، ورغم الثورة الرقمية التي أتاحت الفرصة لأي شخص أن يحمل مكتبة شاملة في قرص صلب مدمج لا يتجاوز طوله سنتيمترات معدودة، لكن الإنسان العربي في عزوفه عن قراءة الكتب يشبه تماما حال الإبل التي يقتلها الظمأ وهي تحمل الماء على ظهرها، «كالعيس في البيداء يقتلها الظما***والماء فوق ظهورها محمول» كذلك الإنسان العربي يقتله الجهل وهو لا يدخل في مكان ولا يخرج من آخر إلا ووجد آلاف الكتب القيمة المكتوبة بلغته، لكن مشاغله في الحياة قد تعددت حتى بات لا يدري بأيها يبدأ، كحال «خداج» تكاثرت الظباء على خداج فما يدري خداج ما يصيد، فوسائل التواصل الاجتماعي باتت تستحوذ على كل فراغ للإنسان خارج عمله.
وأوضح أنه من المؤسف أن أمة «اقرأ» لم تعد تقرأ، فالكتاب الذي وصفه المتنبي بأنه خير جليس لم يعد كذلك، بل صار جليسا مملا، لا بل إنه لم يعد جليسا لأناس كثر، فكثيرة هي المنازل التي لا توجد فيها مكتبات، وهذا هو سر تراجعنا الحضاري والمعرفي، فالإنسان في الدول المتقدمة يقرأ سنويا عشرات الكتب، في الوقت الذي لا يقرأ فيه العربي كتابا واحدا.
تراجع قيمة الكتاب
بدوره قال عبدالرحمن العنزي: إن تراجع قيمة الكتاب لدى الإنسان العربي ناتج عن جهله بدور الكتاب الحضاري الذي لا غنى عنه في دعم الثقافة المكتوبة وترويجها على نطاق واسع، مما ساهم بشكل كبير في تراجع نسبة المطالعة للكتاب ورقيا كان أو إلكترونيا، وهذا مرض أصاب العديد من الشعوب العربية، ومن الغريب أن هذا المرض لم يكن موجودا حتى عقد خلت، حيث كان الأجداد -رغم الظروف الصعبة- يعرفون قيمة الكتب ويهتمون بها، حتى إن الواحد منهم كان يسافر إلى أماكن بعيدة من أجل مطالعة كتاب لدى أحد سكان تلك المنطقة لا تمكنه إعارته ولا يتوفر عند غيره، كما كانوا يشترون الكتب التي يهتمون بها بأي ثمن، ولو دفع أحدهم في الكتاب الواحد كل ما يملك فإنه يعتبر نفسه هو الرابح، والتاريخ مليء بشواهد من هذا القبيل، بالإضافة إلى ضعف تقديرنا لقيمة الكتاب، وهو ما شكل تراجعا خطيرا لقيمة العلم والثقافة، مما يستدعي من الجميع إعادة النظر في طريقة التفكير حول قيمة الكتاب وأهميته وحركة تداوله، من هنا يتعين علينا العمل على إشاعة روح المطالعة وقيمة الكتاب، والاستعداد لتبادله وتسهيل توزيعه حتى تستعيد الكتب الورقية قيمتها وأهميتها في وجدان القراء الذين اهتموا بأمور ثانوية أثرت على مستوى الثقافة والتعليم في عالمنا العربي.
أمراض مستعصية
وفي نفس السياق يرى أنور عبدالقيوم أن أسباب عزوف المواطن العربي عن المطالعة كثيرة ومتعددة ناتجة عن أمراض مستعصية يعاني منها الإنسان العربي وجعلته استثناء من بين شعوب الأرض، فالإنسان العربي مستعبد في وطنه، ولا يشعر بحريته، فهناك عملية تجهيل تمارس ضده، فهو إن اخترع جهازا أو سيارة أو طائرة بعبقريته يجد نفسه في السجن، لأن الحاكم لم يرخص له في استعمال عقله فيما يفيد وطنه وأمته، وإن شاءت الأقدار له أن يتغرب ويدرس في بلدان أخرى واكتسب منهم العلم وقيمة القراءة والمطالعة، ثم عاد إلى الوطن فسيجد نفسه على هامش الحياة ما لم ينخرط في منظومة الفساد الموجودة، لذا من غير الإنصاف أن نطالب مريضا بالاهتمام بالكتب والثقافة، في الوقت الذي توجد لديه أولوية البحث عن علاج، فالأمراض الاجتماعية والنفسية والاقتصادية تحاصر المواطن العربي بحيث لا يستطيع التفكير في غير الوسائل التي تمكنه من الحصول على لقمة العيش، أو جرعة الدواء، فهو يصبح وقد استحوذ على برنامجه اليومي التفكير كيف يستطيع تأمين رغيف الخبز لعائلته، أما أن يفكر في غير هذه الهموم والمشاغل فتلك جريمة يعاقبه عليها القانون العربي، من هنا يجب أن نعلم أن أمة مستعبدة، لا تمتلك حريتها، ولا تجد ما تسد به رمقها لا يمكن أن تقرأ كتبا ولا أن تؤلفها، ناهيك عن المشاركة في إثراء الحضارة الإنسانية معرفيا وثقافيا، فالدول المتقدمة فرضت على مواطنيها بشكل عملي الاهتمام بالمطالعة وقراءة كل ما يصدر عن دور الطباعة من كتب، لأن الإنسان فيها لا يفكر في لقمة عيشه اليومية، ولا كيف يحصل على تأمين ثمن وصفة طبية لأحد أبنائه، فالحكومات في تلك الدول قد تكفلت لمواطنيها بكل أسباب العيش الكريم، بالتالي أصبح لديهم فائض وقت يمكنهم استثماره في القراءة والمطالعة، وأنا على يقين أن العرب لو وجدوا حكومات تهتم بالإنسان وتستثمر فيه وتضمن له العيش الكريم، فلن يكون العربي أقل مطالعة للكتب من مواطني تلك الدول.
أسباب أخرى
أما هذال العتيبي فله رأي آخر يجمله فيما يلي: تراجع مستوى المطالعة وقيمة الكتاب لدى المجتمعات العربية له أسباب أخرى غير التي ذكرت، إذ لا يمكن أن نحمل الثورة التكنولوجية مسؤولية عزوف المواطن العربي عن المطالعة وقراءة الكتب، كما لا نستطيع حصر الأسباب في الجانب الاقتصادي، ناحية الثورة الرقمية نستطيع التأكيد على أنها زادت من فرص المطالعة وأشاعت كل ما يصدر عن دور النشر بشكل مجاني فهي وسيلة ولكل وسائل خصوصيتها وفوائدها، فالإنترنت على سبيل المثال ساهمت في وضع عالم الكتب بين يدي القارئ، فهي لا تلغي وجود الكتاب بل تعزز وجوده، كما أن الظروف الاقتصادية -وإن كانت عاملا مؤثرا- إلا أنها ليست مشكلتنا بدليل وجود شعوب عربية ثرية توفر لها حكوماتها ما لا توفره حكومات الدول المتقدمة، ومع ذلك ظلت هذه الشعوب متأخرة من ناحية المطالعة، من هنا علينا الاعتراف بأن الأزمة تكمن في عدم تأصل ثقافة القراءة والمطالعة لدى الإنسان العربي الذي لا يجد في القراءة حاجة ملحة في حياته الفكرية والعملية، فرغم اهتمام الشعوب الغربية بالعمل وجديتها فيه واستغراق أوقاتها في عملها وإتقانه، إلا أنها عرفت قيمة الكتاب وقيمة القراءة فأفردت له مساحة من وقتها مهما كانت الظروف، فالغربي يقرأ في السيارة وفي الطائرة وفي القطار، ويستغل الدقائق قبل نومه في قراءة جزء من كتاب، وبعضهم ينام ويسقط الكتاب على وجهه، من هنا ندرك أن الموضوع لا يتعلق بالمعوقات التي ذكرناها فهي معوقات عالمية يعاني منها الجميع، وإنما يتعلق بحياة الفوضى التي يعيشها الإنسان العربي، فالأغنياء العرب يبددون وقتهم في تبديد ثرواتهم في السياحة والانتقال من بلد إلى آخر، والفقراء يستسلمون لفقرهم ويبيت الواحد منهم ساهرا يفكر في حاله، ولو أن هذا الفقير أنفق جزءا من تفكيره في لقمة عيشه على قراءة كتاب فربما يساعده على حل ويزيد من فرص معرفته بدروب العمل الذي يمكنه من الحصول على ما يفكر فيه.
وأشار إلى أن معارض الكتاب التي تقام في مختلف البلدان العربية تقام بشكل غير مدروس -على الأقل في بعض البلدان- فآلاف الكتب التي ينم عرضها لم تسوق بشكل احترافي، فمعظم الجمهور الزائر لا يعرف عن هذه الكتب شيئا ولا عن مؤلفيها، وهذه ثغرة إعلانية تجعل زوار معارض الكتاب ينقسمون إلى فئتين، فئة من النخبة تأتي لاقتناء كتب معينة تعرف مؤلفيها، ومواضيع الكتب التي تعالجها، وفئة من أولياء أمور الطلبة يتوافدون لاقتناء ما يحتاجه أبناؤهم في المدارس، ناهيك عن أسعار بعض الكتب المبالغ فيها والتي تقف حجر عثرة أمام العديد من الراغبين في المطالعة، فتجد الشخص يعود من حيث أتى بكتاب واحد، وقد كان يتمنى لو قدر على اقتناء كل الكتب التي أعجبته، لكن الأسعار مرتفعة وظروفه المادية لم تسعفه.