د. علي عبد الرؤوف خبير التخطيط العمراني لـ «العرب» (2-2): قطر لم تتسابق في تشييد ناطحات سحاب بلا روح

alarab
د. علي عبد الرؤوف خبير التخطيط العمراني لـ «العرب» (2-2): قطر لم تتسابق في تشييد ناطحات سحاب بلا روح
المزيد 15 يوليو 2025 , 01:22ص
محمد عابد

الدوحة اختارت مسارًا عمرانيًا مغايرًا وتبنّت اقتصاد المعرفة كركيزة حضرية 
الدولة حريصة على وجود مدينة إبداعية تحافظ على الهوية القطرية
التعليم المعماري في قطر قدم كوادر وطنية فاعلة لها أطروحات إبداعية
المنشآت الرياضية في قطر صمّمت لتكون مراكز ثقافية وليست ملاعب فقط 

 

استعرض الكاتب الدكتور علي عبدالرؤوف، أحد أبرز منظّري التخطيط العمراني في المنطقة العربية،مستشار العمارة والعمران في قطاع التخطيط العمراني والأستاذ الزائر سابقاً  في جامعة حمد بن خليفة، في الجزء الثاني من حواره مع «العرب»، أهم الرؤي العمرانية التي ارتبطت بالعمارة القطرية عبر مشاريع كأس العالم وتأثيرها على الفلسفة المعمارية القطرية، كما تناول أهم ملامح المدينة المستدامة والصديقة للإنسان.
وشدد على ان مدينة الدوحة اختارت مسارًا عمرانيًا مغايرًا عن السائد في الخليج، ولم تتسابق في تشييد ناطحات سحاب بلا روح، بل تبنّت اقتصاد المعرفة كركيزة حضرية، ورأت أن الثقافة أصل من أصول التنمية، لا زينتها، مشيرا في الوقت ذاته إلى أن التعليم المعماري في قطر نجح في تخريج كوادر وطنية فاعلة لها أطروحات إبداعية تجمع بين التراث والحداثة.
وكان الحوار، الذي أجريناه بمناسبة صدور الكتاب الجديد للدكتور عبدالرؤوف «العمارة والعُمران في قطر المعاصرة: التوجهات الإبداعية والقضايا النقدية»، الصادر عن دار نشر جامعة قطر، تناول في الجزء الأول التحولات العميقة التي شهدها المشهد المعماري والتخطيطي في دولة قطر خلال العقود الأخيرة لتصبح الدوحة واحدة من أهم المدن الحضارية على المستوى العالمي. وإلى التفاصيل:

◆ كيف تعامل التخطيط العمراني في قطر مع التوسع الحضري والنمو السكاني المتسارع؟
¶ شهدت قطر في نهاية العقد الأول من القرن الحالي نموًا عمرانيًا ضاغطًا أفرز تحديات معقدة، من الزحف العشوائي، وازدياد الازدحام، وسوء توزيع استخدامات الأراضي، إلى تدهور بيئي ناجم عن الاعتماد شبه الكلي على السيارات. هذه الظواهر جعلت من إطلاق الخطة العمرانية الشاملة لدولة قطر (2011–2032) ضرورة حتمية.
وقد تمثلت أبرز أهداف هذه الخطة في إعداد مخططات هيكلية متكاملة لبلديات الدولة، مع تحديد واضح لاستعمالات الأراضي المستقبلية، وتطوير إستراتيجية لحاضرة الدوحة تراعي التوسع العمراني والتحكم البيئي، وإنشاء مراكز حضرية رئيسية تُعيد تشكيل المشهد العمراني في العاصمة.
 
الملعب فضاء للانتماء والتفاعل
◆ ما أثر التحضير لكأس العالم 2022 على المشهد المعماري في قطر؟ وهل نعيش اليوم مرحلة «ما بعد كأس العالم»؟
¶ بالفعل، هذا حدث محوري تناولته بالتفصيل في الفصل السادس من الكتاب تحت عنوان «ما قبل وما بعد الحلم»، وهو يقصد أن التخطيط لم يتوقف عند الاستضافة، بل بدأ منها.
لقد تبنّت قطر فلسفة معمارية جديدة مفادها أن المدينة لا تخدم الحدث، بل إن الحدث يجب أن يخدم المدينة ويخلّف إرثًا حقيقيًا.
ونجحت الدولة في بناء مجموعة من الملاعب ليست مجرد منشآت رياضية، بل مشاريع ذات أدوار مستقبلية واضحة، صمّمت لتتحول إلى مراكز ثقافية، وحدائق عامة، وساحات تعليمية ومجتمعية.. هذا التحول أعاد تعريف مفهوم «الملعب»، ليغدو فضاءً للانتماء والتفاعل، لا مجرد ساحة منافسة.
لقد نجحت دولة قطر، وبشهادة الحضور الرسمي والشعبي وقيادات العمل الرياضي والسياحي في العالم، في استضافة غير مسبوقة لفعاليات كأس العامل عام 2022. ومن أهم ملامح هذه الاستضافة، نجاح قطر في بناء مجموعة متميزة من الملاعب الرياضية التي استضافت المباريات بنجاح كامل، ولكنها أيضًا تقع في دائرة مفهوم الإرث المقدم للمجتمع. حيث تقع كل هذه الملاعب في بلديات وسياقات عمرانية وحضرية مختلفة وتم دراسة دورها المستقبلي في التحول إلى مراكز مجتمعية فعالية في سياق مناطق وجودها في نسيج مدن قطر المختلفة.

◆ تناولت في الكتاب فكرة «المدينة المعرفية المبدعة».. كيف تترجم هذه الفكرة في السياق القطري؟
¶ الدوحة اختارت مسارًا عمرانيًا مغايرًا عن السائد في الخليج. لم تتسابق في تشييد ناطحات سحاب بلا روح، بل تبنّت اقتصاد المعرفة كركيزة حضرية، ورأت أن الثقافة أصل من أصول التنمية، لا زينتها.
وفق رؤية قطر الوطنية، تتحرك الدولة نحو مدينة إبداعية تحافظ على الهوية القطرية، دون أن تعرقلها في التقدم. إنها مدينة لا تنسى ماضيها، بل تستلهمه لبناء مستقبلها، وهي تدرك أن الريادة الحضرية لا تقاس بارتفاع المباني بل بعمق الأفكار.
 
الدوحة أكثر صداقة للبيئة
◆ من وجهة نظرك، هل نجحت قطر في بناء مدينة تراعي جودة الحياة والبعد الإنساني في التصميم؟
¶ أحد أبرز التحولات التخطيطية في قطر هو الانتقال من الاعتماد التام على السيارات إلى استراتيجية النقل العام المتكامل. حيث تعتمد الخطة العمرانية الشاملة لدولة قطرعلى مفهوم تخطيطي رئيسي للتطبيق في كل بلديات ومدن دولة قطر المرتكزة على النقل العام ولذا فقد تميز الفكر المستقبلي لتخطيط قطر ومدنها بالارتكاز على استراتيجية النقل العام المترابط. وهو ما يجعل المدينة ومناطقها العمرانية أكثر صداقة للبيئة واقل تأثيرا على معدلات المساهمة في التغير المناخي.
 هذا التوجه يسهم في خفض البصمة الكربونية، ويعزز التواصل المجتمعي من خلال أنماط حركة صديقة للبيئة، كالمشي وركوب الدراجات.
كما جرى تعديل تصميم الشوارع لتصبح أكثر ترحيبًا بالمشاة، وربط الأحياء بمسارات آمنة نحو محطات النقل. هذه الخطوات تترجم الرغبة في مدينة أكثر إنسانية، أكثر صحة، وأكثر تفاعلًا.

◆ ما التحديات التي ما زالت قائمة لتحقيق مدينة شاملة ومستدامة؟
¶ لا تزال بعض التحديات قائمة، مثل الحاجة لتعزيز الشبكات الخضراء وربطها بالفضاءات العامة، والتمييز الواضح بين الطرق السريعة والشوارع الحضرية الصديقة للإنسان.
كما أن مفهوم الشارع لا يزال بحاجة إلى إعادة صياغة بوصفه مساحة للحياة الاجتماعية، وليس مجرد ممر للسيارات. التوسع في تطبيق هذه الرؤية سيكون مفتاحًا مهمًا لخلق بيئة عمرانية مستدامة ومتناغمة مع أنماط الحياة المعاصرة.

◆ ما توقعاتكم للمشهد العمراني في قطر خلال العقدين القادمين؟
¶ أعتقد أن قطر ستستمر في ترسيخ مكانتها كوجهة عالمية لاقتصاد المعرفة. تصميم بيئتها المبنية لا يكتفي بالوظيفة، بل ينشر رسالة حضارية إيجابية ويخلق علامة عمرانية تعزز جودة الحياة وتجذب الكفاءات.
ما يحدث في الدوحة ليس مجرد تمدن، بل هو مشروع حضاري يهدف إلى تحويل المدينة إلى منصة إنتاج معرفي وإبداعي، تستقطب عقولًا من مختلف الثقافات وتمنحهم فضاءً للتحقق والابتكار.
 
كوادر معمارية وطنية 
◆ هل نشهد ولادة جيل معماري قطري جديد له رؤى مختلفة؟
¶ نعم. هناك صحوة واضحة بفضل دخول مكاتب استشارية محلية ومهنيين وطنيين في الساحة المعمارية، كما ساهم التعليم المعماري في جامعة قطر وجامعة حمد بن خليفة في تخريج كوادر وطنية أصبحت فاعلة على مستويات الممارسة واتخاذ القرار، ونجحت في تقديم أطروحات إبداعية نابعة من التراث ومتصالحة مع الحداثة.

◆ ما الرسالة التي أردتم إيصالها من خلال هذا الكتاب للمعماريين وصناع القرار والقارئ العربي عمومًا؟
¶ الكتاب يسعى إلى تقديم قراءة تحليلية ونقدية للتجربة التخطيطية في قطر، بوصفها نموذجًا استثنائيًا في الخليج، وقد ناقشتُ كيف يمكن أن تكون المدن الخليجية أكثر من مجرد واجهات اقتصادية، وأن تصبح حواضن للمعرفة، تستوعب تنوع السكان وتحتضنهم لا تقصيهم.
طرحتُ مفهوم التنمية متعددة المراكز، ونبهت إلى أن نجاح أي مدينة في المستقبل لن يتحقق إلا إذا تبنّت ثقافة البحث والابتكار كقيم يومية، وأنشأت بنية تحتية معرفية مشجعة على الإبداع، واحتضنت طبقة «عمال المعرفة» بوصفهم محركي التغيير.
 
الرواية والمدينة
◆ أخيرًا، في كتابكم «مدن العرب في رواياتهم»، قدّمتم أطروحة لافتة عن العلاقة بين الرواية والمدينة. فماذا عن هذه التجربة؟
¶ الفكرة الأساسية في الكتاب هي أن الروائي، كالمعماري، يبني مدينة. لكنه لا يشيدها بالحجر، بل بالحكاية؛ في العالم العربي، قلّما نُظِر إلى الرواية بوصفها مرآة معمارية، رغم أن المدينة كانت دائمًا بطلةً صامتةً في كثير من الروايات.
استعرضتُ كيف صوّر كبار الأدباء العرب مدنهم: من محفوظ إلى غادة السمان، ومن غازي القصيبي إلى الأشعري. وربطتُ بين البنية المعمارية الفعلية للمدن، وتلك المتخيلة في الروايات.
وتطرقتُ إلى أمثلة عالمية مثل آين راند، وأورهان باموق، الذي وصفته الأكاديمية السويدية بأنه يكتب «بحثًا عن روح الحزن في مدينته» فالمكان في الرواية ليس إطارًا فقط، بل كائن روحي يحمل هوية المدينة وألمها وفرحها، ويعبّر عن علاقتها المعقدة بالإنسان.