

تبرز مدينة الدوحة كحالة فريدة في المشهد العمراني العربي والخليجي، فهي على الرغم من كونها لا تزال في طور التشكّل، لكنها في ذات اللحظة تُنتج معرفتها الخاصة حول ماهيّة المدينة، وتجمع بعمق بين الأصالة في تقاليدها وأصولها والمعاصرة في جمالها وروعتها كما يجمع النمط المعماري القطري عموما بين التقاليد المعمارية ومقتضيات اقتصاد المعرفة.. هذا ما أكده الكاتب الدكتور علي عبد الرؤوف، أحد أبرز منظّري التخطيط العمراني في المنطقة العربية، مستشار العمارة والعمران في قطاع التخطيط العمراني الأستاذ الزائر سابقاً في جامعة حمد بن خليفة في حواره مع «العرب» بمناسبة صدور كتابه الجديد «العمارة والعُمران في قطر المعاصرة: التوجهات الإبداعية والقضايا النقدية».
وترجع أهمية الكتاب كونه عملا تأمليا نقديا يضع مدن الخليج وقطر تحت المجهر، ويُعيد طرح الأسئلة الكبرى: ما المدينة؟ وما حدود العمران؟ ومن الإنسان الذي يُبنى له هذا الفضاء؟ وهل نحن في الخليج، نكتب مدننا أم نعيد فقط نسخها من أطلس الغير؟ فالكتاب يروي بصورة تحليلية ونقدية قصة التنمية العمرانية في قطر وهو يتتبع تطور العاصمة الدوحة من الخمسينيات وحتى اليوم. ونحاول في حوارنا المطول والذي تنشره «العرب» على جزأين أن نخوض مع الدكتور عبد الرؤوف رحلة فكرية داخل المشهد المعماري القطري. نُحاور لا لمجرد التوثيق، بل لاختبار المعنى الحضاري خلف الشكل، والرؤية الكامنة وراء المدى البصري للعمارة القطرية.
وإلى تفاصيل الحوار:
◆ كتاب “العمارة والعُمران في قطر المعاصِرة: التوجّهات الإبداعية والقضايا النقدية ما الذي دفعكم دكتور علي لتأليف هذا الكتاب؟ وما الفجوة المعرفية التي كنتم تسعون لسدّها من خلاله؟
¶ إن عملي الأكاديمي والبحثي والاستشاري، ووجودي في سياق الخليج لقرابة عقدين، مكنني من الاقتراب بشكل مباشر من إيقاع التغير المتسارع في المدن الخليجية والقطرية. بل كنت شاهد عيان في كل المتغيرات، بل والوثبات التي شهدتها البيئة المبنية للمنطقة. وفي قطر خصوصا مما أعطاني الفرصة لتأمل قريب وديناميكي لكل مشاهد تطور تلك المنظومة وتحولاتها المختلفة، ولذلك تصاعد لدي إصرار تدريجي للكتابة عن التجربة القطرية وخاصة في شقها المعماري والعمراني والتخطيطي، لهذا يأتي الكتاب في إطار مسؤولية الأكاديمي للتواصل مع المجتمع، خاصة أن هذا الطرح والتحليل المتكامل للمشهد المعماري والعمراني الخليجي عامة والقطري خاصة لم يسبق تناوله وخاصة باللغة العربية، فالكتاب يرصد عمارة الإنسان وفلسفة المكان، ويفحص تفاعل الإنسان مع المكان في مدينة تتواثب على إيقاعات القرن الواحد والعشرين.
التجربة القطرية
◆ هل ترى في التجربة القطرية مادة غنية تستحق التأريخ النقدي، أم أنها ما زالت في طور التشكّل؟
¶ لمزيد من الدقة، الكتاب ليس معنيا فقط بالتأريخ النقدي، ولكن بتحليل المشهد المعاصر واستشراف المستقبل أيضا، حيث يسعى إلى تقديم تحليل للأطروحات الإبداعية ورصد للقضايا النقدية التي تنبع من المراقبة المتأملة لمراحل تطور العمارة والعمران في قطر، وخاصة مدينة الدوحة عاصمة قطر منذ منتصف القرن الماضي وحتى اليوم. كانت الدوحة إحدى المستوطنات النموذجية لبوابة الخليج التي تم تطويرها حول العلاقة بين مجتمعها والخليج. ومن أجل فهم أكثر وضوحا للدوحة، فالكتاب يضع المدينة داخل الدولة وفي السياق الإقليمي أيضا.
في هذا السياق نؤكد على فكرة رئيسية في كل مدن الخليج وهي انها لعبت دور المدينة الدولة أو المدينة العاصمة الأكثر أهمية وتأثيرًا بينما باقي عمران الدولة ثانوي هامشي. ويوضح مسار تنمية المدينة ليس فقط بالتسلسل الزمني، ولكن كفرصة لتحليل العوامل المحلية والإقليمية والعالمية التي أثرت على تطور المدينة في أكثر من ستة عقود. وقد تم تحديث الدوحة المعاصرة بشكل شامل لتتحول إلى واحدة من أكثر المدن تقدمًا وتطورًا في الشرق الأوسط والعالم.
◆ وكيف ترصد التحول العمراني في قطر من مرحلة ما قبل النفط إلى الدولة المعاصرة؟
¶ شهدت الدوحة، وهي واحدة من أقدم المدن في الخليج، تغيرا سريعا في شكلها العمراني في فترة زمنية قصيرة نسبيا. بالإضافة إلى ذلك، فإن التغيرات الاقتصادية وتدفق المغتربين المنتقلين إلى الدولة المزدهرة، قد غير الملامح الديموغرافية بشكل كبير خلال العقد الماضي. ويروي الكتاب بصورة تحليلية ونقدية قصة التنمية العمرانية في قطر.
وهو يتتبع تطور العاصمة الدوحة من الخمسينيات بعد نقل شحنات النفط من الدوحة وبدأت عوائد النفط في تغيير المدينة. ويشير إلى أن استراتيجيات التنمية في الدوحة صيغت بطريقة يمكن أن تهيئ المدينة على نحو أفضل للنموذج الحتمي لما بعد الكربون. ولذلك يفسر الكتاب التحولات المورفولوجية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية في المدينة والدولة، وخاصة التحول من الاقتصاد القائم على النفط إلى اقتصاد المعرفة.
الرصيد التاريخي والتراثي
◆ إلى أي مدى استطاعت الدوحة أن تحقّق توازنًا بين الحداثة العمرانية والمحافظة على الخصوصية الثقافية؟
¶ الكتاب يناقش فكرة التوازن بين الاستمرار في التأثر بالرصيد التاريخي والتراثي، ومحاولة تجاوز هذا التأثر ليكون أكثر عمقا من مجرد الطرح البصري. لذا يتم تحليل مجموعة من المشروعات التي تتدرج من مستوى التعامل المباشر مع الرصيد التراثي مثل حالة سوق واقف، ووصولا إلى المنهج المعمق الذي ينتج مجموعة من المبادئ والعلاقات والانساق المرتكزة على الماضي، ولكنها تطرح لغة تشكيلية جديدة ومعالجات فراغية مبدعة مثل حالة مشروع مشيرب في قلب الدوحة، فالعمارة تعتبر جزءًا لا يتجزأ من الهوية والثقافة والتراث، ولا يمكن أن نعرف بلدًا ما حق المعرفة دون أن نشاهد الأنماط المعمارية التي تميزه والتي توارثها عبر الأجيال.
◆كيف تقيم الهوية البصرية للمدن القطرية اليوم؟ وهل تعكس روح المجتمع المحلي؟
¶ الهوية هي تعبير عن ثقافة محلية يمكن أن تستخدم العمارة وسيطًا لنقل مقومات هذه الهوية وملامحها. ومن هنا تأتي اهمية العمارة ولغتها التشكيلية والفراغية في التعبير عن الاستلهام من الهوية المحلية والتراث التقليدي.
إن الحقبة الأخيرة في المدن القطرية، شهدت تغيرًا نوعيًا في إدراك قيمة التراث ليس فقط كتعبير عن تاريخ وهوية الدولة، ولكنه أيضًا يمثل رافدًا إبداعيًا، وقد رصد في العقد الأخير وخاصة في نسيج مدينة الدوحة، مجموعة من المشروعات التي تستحق جهدا نقديا للتعامل معها أبرزها سوق واقف، مشروع مشيرب قلب الدوحة، مسجد الإمام محمد بن عبد الوهاب، المقر الرئيسي لبلدية الريان، المقر الرئيسي لإدارة المرور، والمؤسسة العامة للحي الثقافي « كتارا» وكلها مشروعات استخدمت التراث المعماري والعمراني التقليدي القطري والخليجي في صياغات بنائية لمشروعات معاصرة أضافت للصورة الكلية لمدينة الدوحة وهي مدينة لها رؤية تعتمد على التوازن بين المحلي والعالمي.
من جهة أخرى، فإن المدينة تشكل مستقبلها في إطار مفاهيم الاقتصاد المعرفي واجتذاب المعرفة من كل أنحاء العالم ما يقدم مدخلا آخر لا يحصر هوية المجتمع في موروثه التقليدي، ولكنه يقدم الهوية الهجينية الديناميكية التطور، والمشاركة من كل من ينتمون للمكان ويشعرون بالولاء له.
القضايا النقدية والجدل المعماري
◆ هل ترى أن هناك قطيعة مع الإرث المعماري المحلي، أم أن هناك محاولات ناجحة لإعادة توظيفه؟
¶ إن دراسة التراث لا تقدم فقط توثيقًا تاريخيًا لماضٍ ذي قيمة، ولكن والأكثر أهمية أنها تطرح هذا التاريخ ليكون رصيدًا ملهمًا لممارسة المعمارية والعمرانية المعاصرة في الخليج ودولة قطر على وجه الخصوص. ولذا من المهم التيقن من قدرة العمارة التقليدية القطرية عند فهمها وتحليلها بعمق، على تقديم حلول معاصرة ومبدعة تتلاءم مع طبيعة المجتمع القطري وتطلعاته ونمط حياته. هذا الطرح أيضًا يدعو إلى حقبة جديدة وعصر نهضة جديد للعمارة القطرية التقليدية تنبع من فهم جديد وحداثي ومعاصر للعمارة والعمران التقليدي بهدف الحفاظ على الهوية المحلية والوطنية المتجددة وليس المتجمدة، ولتحقيق تنمية مستدامة للمدينة وللمجتمع وبأولوية قصوى للإنسان.
◆ ما أبرز القضايا النقدية التي يطرحها الكتاب في سياق المعمار القطري؟ وهل هناك نماذج عمارة تُثير التساؤل أو التحدي؟
¶ بلور الكتاب دور العمارة والعمران في صياغة شخصية المدينة فلكي تتمكن أي مدينة من خلق شخصيتها العمرانية يجب ان تبدأ بتقييم صادق لما تملك من مميزات وأيضا أوجه النقص والعوائق ثم محاولة تعظيم تلك المميزات. كما يجب بذل جهد أكبر في الاستفادة من النماذج المتميزة في التعامل المعاصر والمبدع مع التراث المعماري والعمراني.
تبرز هنا حالات مثل المتحف الإسلامي ومشروع مشيرب لنجاحها في تقديم اطروحات مبدعة، ولكنها مرتكزة على الفهم المتجدد والديناميكي للتراث الإسلامي المعماري والعمراني. كما نبه الكتاب إلى أهمية وجود حركة معمارية وعمرانية متوازنة وأن يكون هناك انتباه كامل من خطر الاستغراق والاستسلام الى الحلول الغربية التي لا تنسجم تماما مع معطيات السياق القطري.
تناول الكتاب أيضا قضايا الاستعداد لحقبة ما بعد النفط والتغير المناخي وسلوك المواطن وعلاقته بالتعامل المكاني.