

يُعدّ تسجيل ختمة القرآن ثمرة جديدة من ثمرات التعاون بين مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع والمؤسسة القطرية للإعلام مُتمثلةً بإذاعة القرآن الكريم، حيث استغرق التعاون بين الطرفين نحو ستة أشهر من أجل إتمام هذا العمل.

وقد انطلق هذا العمل المشترك بين الجهتين منذ منتصف شهر سبتمبر العام الماضي ولغاية منتصف شهر فبراير، حيث عمل الجانبان على تسجيل الختمة القرآنية الأولى للشيخ هيثم الدخين إمام جامع «ذو المنارتين» (جامع المدينة التعليمية)، وذلك على مدار 5 أيام في الأسبوع بشكل متواصل. وتأتي هذه الخطوة في إطار التزام مؤسسة قطر وريادتها بالحفاظ على الثقافة العربية، وتعزيزها ونشر القيم الدينية والمجتمعية التي تُشكل مصدر إلهام لجميع المهام التي تقوم بها المؤسسة وذلك بالتعاون مع الجهات الوطنية عبر المنصات المحلية والدولية.
= الشيخ هيثم الدخين، شاب وإمام جامع المدينة التعليمية، ما الذي حفّزك لتختار هذا المسار الطيّب وتمتهنهُ، وهل أنت سعيد في خيارك، وهل تُحفز الشباب على اختيار هذا النهج ولماذا؟
* أولًا، أسأل الله سبحانه وتعالى أن يغفر لي ما لا تعلمون ويجعلني خيراً مما تظنون. بالنسبة لهذا المسار الذي اخترته، لعلّه أولا اختيار من الله سبحانه وتعالى أن يضعني على هذا الطريق، وأنا سعيد جدًا بأن الله عزّ وجلّ جعلني في خدمة القرآن الكريم وفي خدمة المحراب، واستخدام صوتي بأن أترنّم بالقرآن الكريم ويسمعه الناس في قطر وشتّى بقاع العالم، فالحمدالله ربّ العالمين. لقد نشأتُ في بيئة قرآنية، الوالد رحمه الله كان إمامًا ومؤذنًا، وحافظًا للقرآن الكريم، وكذلك إخواني وأخواتي. فلا شكّ أن البيئة الأُسرية أثرت عليّ بشكل إيجابي. ودائمًا أنصح الإخوة الذين يرغبون في حفظ القرآن الكريم أو التحلي بأخلاق القرآن أو التميز في أي مجال علمي سواء في الفقه أو الشريعة أو في غيرها من المجالات أن يختاروا البيئة الصحيحة، فالبيئة السليمة هي التي تبني الإنسان. كنتُ أقصدُ المسجد في طفولتي مع والدي لأتعلّم القرآن، فعشقتُ القرآن الكريم منذ طفولتي. وفي الشباب ارتحلتُ بحثًا عن العلوم التي تُميزني في القرآن الكريم، ووفقني الله لحفظ القرآن عندما كان عمري 16 عامًا، وما زال لديّ طموحات كثيرة في هذا المجال، أسأل الله أن يعينني على تحقيقها، بحيث أرحل من هذه الحياة وأنا راضٍ عن نفسي.
= نُبارك لكم تسجيل الختمة قرآنية بدعم من مؤسسة قطر، حيث سيتم بثّها عبر العديد من المنصات العالمية الرقمية الرائدة وفي العديد من المؤسسات الحكومية والخاصة القطرية، وهذا يؤكد مجدداً حرص مؤسسة قطر على حفظ الهوية العربية الإسلامية، والسعي لنشرها في مختلف أنحاء العالم. كيف تصفون هذه المحطة المهمّة في مسيرتكم المهنية؟ وكيف تأثرتَ ببيئة المدينة التعليمية؟
* عندما تم تعييني كإمام جامع المدينة التعليمية، هذا الجامع الجميل والرائع والرائد عالميًا من ناحية جمال الهندسة المعمارية وما يُمثله من معلم إسلامي بارز، أردتُ إبراز جماليات جامع المدينة التعليمية بكلّ ما فيها، خصوصًا وأنه يقع ضمن بيئة تعليمية وبحثية فريدة من نوعها، إضافة إلى ما توفره من أنشطة مجتمعية مرتبطة بالثقافة الإسلامية واللغة العربية. في الوقت نفسه، فإن روّاد جامع المدينة التعليمية يملؤون باحات هذا الجامع الداخلية والخارجية خلال شهر رمضان المبارك، حيث إن نسبة الإقبال الكبيرة، وجنسيات المصلين متنوعة، ودوري يكمن في إيصال الرسالة إلى أكبر عدد منهم، وهذا توفيق من الله سبحانه وتعالى، أن الإنسان يحاول إيصال رسالة المحراب أو المنبر، حتى نخرجُ من هذه الدنيا ونكون قد غرسنا بعض القيم والأفكار السليمة عند الناس، وهذا هو الخير الذي نطمح إليه. القصدُ وما فيه، أردتُ أن يكون لي بصمة في المدينة التعليمية الجميلة والرائعة. فيما يتعلق بمشروع تسجيل القرآن الكريم فإنه حلمُ يُراودني منذ زمن، وجاء الوقت الذي طرحتُ فيه الفكرة على مؤسسة قطر التي تبنت هذا المقترح ودعمته بقيادة صاحبة السمو الشيخة موزا بنت ناصر، رئيس مجلس إدارة مؤسسة قطر للتربية والعلوم وتنمية المجتمع، حيث تحرص قيادة المؤسسة على الاهتمام بالمجال الإسلامي، ويُعتبر جامع المدينة التعليمية ونشر ثقافة القرآن الكريم، من أولويات المؤسسة. هذه الثمرة الطيبة التي تُثمر القيم والأخلاق والمبادئ. وقد وفرّت المؤسسة البيئة المناسبة للخروج بهذا العمل المميز والرائع الذي يمثل المدينة التعليمية، بما يعكس الجانب الإسلامي وقيم القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة والأخلاق التي تنطلق منها مؤسسة قطر في مختلف مساعيها.
= يسعى الإنسان للقيام بالعمل الصالح، والتحلي بالأخلاق الحميدة وتعزيزها طوال حياته، وتُعتبر قراءة القرآن الكريم من الأعمال الحسنة التي نثابر عليها في مجتمعاتنا، بماذا تتميز قراءة القرآن الكريم خلال شهر رمضان الكريم؟
* يكفي شرفًا هذا الشهر العظيم والمبارك أن القرآن أنزل فيه، إذ قال الله تعالى «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ». الميزة الثانية هي استحضار الروحانيات والإيمانيات في هذا الشهر المبارك، إذ تُغلق أبواب النيران وتُفتح أبواب الجنان، فالإنسان في هذا الشهر يتفرّغ تفرّغًا كاملًا بأن يتوجه بقلبه وبأحاسيسه ومشاعره إلى الله سبحانه وتعالى، فينطلق لطلب المغفرة والتخلص من الذنوب والخطايا التي تُثقل كاهله وما مرّ بع طوال العام، ويسعى الإنسان لإعادة بناء المشاعر الإيجابية خلال شهر رمضان الكريم. وإن لم يتوجه الإنسان إلى الله، ويسعى لأن يختم المصحف الشريف في هذا الشهر وأن ينهل من منهاله ومن منابع الإيمان فمتى سينهل منها؟
= دعوتَ في مقابلاتك السابقة إلى اغتنام شهر رمضان الكريم كفرصة لتشجيع أبنائنا على قراءة القرآن الكريم وتحفيز الشباب على ختم المصحف الشريف، وذلك من خلال خطط رمضانية ميسرة وبسيطة، ما هي النصيحة التي تتوجها بها إلى الذين لديهم نيّة ختم المصحف الشريف خلال شهر رمضان المبارك؟
* أنصح الراغبين بختم المصحف الشريف في شهر رمضان الكريم ألّا يقرؤوا أي كتاب غير القرآن، حاولوا قدر الإمكان، فبعض الناس ينشغلون في قراءة كُتب الفقه أو التنمية البشرية أو في تطوير الذات أو في السيرة. لنحاول في شهر رمضان أن نقرأ القرآن. الموضع الثاني ليكن كلّ يومنا قرآني من أجل إنجاز الختمة، حيث من الممكن تقسيم ساعات قراءة القرآن صباحًا ومساءً، وهذا يتطلب وجود بيئة أسرية داعمة ومشجعة، من حيث الالتزام بخطة وجدولة، وأن يسعى أولياء الأمور أن يخلقوا هذه البيئة، والموضع الثالث، يكمن في الاستماع إلى النصائح، فالحسنات التي يجنيها المرء من قراءة القرآن الكريم خلال شهر رمضان مضاعفة. ليتذكر الإنسان هذا المعنى العميق في نفسه ويعيش مع القرآن الكريم، ويتذكر الإنسان أن شهر رمضان هو شهر التنافس، فمن يُنافس فيه ختمات المصحف، ومن يُنافس في القيام، ونشعر بقيمة التنافس في شهر رمضان. من الناس من سيخرج في هذا الشهر وقد ختم 3 ختمات، ومن الناس من يختم ختمة واحدة بتدبّر، وهذا ما أُفضّله ختمة واحدة أقرأها بتأنٍ وتدبّر، وأعيد الآيات وأذهب إلى المعاني وتفسير الآية. فأسرار القرآن تتفتح في التدبّر، وهذا هو المغزى الحقيقي للقرآن الكريم.
= نسمع يوميًا تلاوات مختلفة سواء من مؤذنين وأئمة، منها ما يُلامس القلب أكثر من غيره، برأيك ما الذي يُميز تلاوة إمام عن غيره؟
* الصوت هو موهبة من الله سبحانه وتعالى، يمكن للإنسان مع الأيام أن يتمرّن ويحترف علم المقامات وغيره، لكنّ الذي يميز الإنسان في إيصال الآيات إلى قلوب الناس هو الإخلاص. أن يخلص الإنسان عمله لله سبحانه وتعالى وأن يكون صادقًا في عمله. لماذا أقرأ القرآن الكريم لأجل الناس؟ لن يصل كما يجب. هناك من سُجّلت له ختمات لم تُنشر، وهناك من سُجّلت له ختمة، وانتشرت في كلّ بقاع الأرض وعلى مدار أعوام مديدة وما زالت تلاوته حيّة حتى يومنا هذا. مثال على ذلك تلاوة الشيخ محمد صديق المنشاوي التي حين نسمعها نشعر أنه صوت يَقرأ من السماء، الآية لا تخرج من فمه وإنما من قلبه صدقًا، حيث وصلت تلاوته لمئات الملايين من المشاهدات، ولا يوجد بيت حول العالم إلا ودخله صوته. ما الذي أبقى هذه التلاوة حيّة بعد مرور نحو 50 عامًا على رحيله؟ الجواب هو توفيق من الله سبحانه وتعالى أولًا، ومن ثم إخلاص الإنسان في عمله ليس فقط في مجال القرآن الكريم، بل في كلّ المجالات فالإتقان والإخلاص والتوجه هو ما يصنع الإنسان، والصدق هو ما يصنع الإنسان. ونسأل الله أن يجعلنا من المخلصين.
= ربّما أصبح الإتقان في العمل تحديًا حقيقيًا، خصوصًا في ظلّ التأثيرات السلبية لوسائل التواصل الاجتماعي؟ ما هي برأيك أهمية توظيف المنصات الرقمية لنشر ثقافتنا الإسلامية ولغتنا العربية؟
* لا شكّ اليوم أنّ مواقع التواصل الاجتماعي تنال حيزًا كبيرًا من اهتمامات وأوقات الفرد والأسرة والمجتمع ككلّ، حيث يتنقل المرء من موقع إلى آخر ومن ثم مواقع الأخبار حتى في العمل بحيث أصبح لوسائل التواصل والمنصات التفاعلية أهمية في تسيير المهام اليومية. لذا، فإنّ مواقع التواصل هي سيف ذو حدّين. فالذي استخدمها بالخير ستأتي عليه شاهدة يوم القيامة بالخير، والذي استخدمها بالشرّ ستأتي عليه شاهدة يوم القيامة بالشرّ. نحاول قدر الإمكان أن نغرس في أنفسنا، وفي الجيل القادم، في أبنائنا، وعائلاتنا، مفهوم: أن كلّ شيء ستعمله في هذه الحياة سيكون مردوده عليك. ما أجمل ذاك الشخص الذي يستغل مواقع التواصل الاجتماعي لينشر حكمة أو آية أو مقطع صوتي من القرآن، أنت لا تدري ما هي الحسنات التي سُجلّت له. وأنت لا تدري من الذي قرأ أو سمع هذه الآية فعاد إلى الله وأثّرت في نفسه ووجد فيها السلام الداخلي. إن القرآن مؤثر في القلوب وحتى قلوب من لا يفقهون اللغة العربية. إن تأثير القرآن عظيم جدًا وخاصة في مواقع التواصل الاجتماعي المليئة بالصخب وبمحتوى لا فائدة منه. الإنسان لا بّد وأن يبحث عن القيمة وعن المعلومة وأن يبحث عن الحسنات والثمرة التي تفيده في الدنيا والآخرة.
= ما هي أحبّ الآيات إلى قلبك؟
* تمرّ الكثير من الآيات وأُحدّثُ بها نفسي قبل أن أُحدّثُ فيها الآخرين. ففي كل آية رسالة، هناك آيات كثيرة أعاتب نفسي من خلالها وأسعى إلى تقويمها ثم أنصح الآخرين بها، ونحن أناس مقصرون مع الله سبحانه وتعالى. ولكن نسأل الله أن يُيسّر لنا تيسيرًا جميلًا. هناك آية تستوقني دائما بقوله تعالى: «وَاللَّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا» الله جلّ جلاله يتحبب إلى الإنسان بقوله تعالى أُريدُ أن أتوب عليك فاقبل. لنشعر بلطف الله على عباده ورحمته علينا.
= هل من كلمة للقرّاء خلال شهر رمضان المبارك؟
* أتوجه بالشكر لمولاي سبحانه وتعالى الذين وفّقني وأعانني على انتهاج هذا النهج وأساله سبحانه وتعالى أن يُثّبتني في زمن الفتن وأن يهديني ويهدي بي. والحمدالله على النعم التي تتوالى ولأنه جعلني في هذا المقام الذي لا يُعتبر تشريفًا، بل هو تكليف ومسؤولية. وأتقدّم بالشكر لقيادة مؤسسة قطر وإخواني في المؤسسة الذين دعموا هذا العمل الخير لنشر القيم والأخلاق. وهذا هو الرصيد العظيم للإنسان بعد رحيله من هذه الحياة. فكم لقارئ القرآن من حسنات إذا أخلص، وكم من حسنات لمن بذل في نشر هذا المصحف إذا أخلص وكم من حسنات لمن أشرف وسجلّ إذا أخلص. على الإنسان أن يحتسب والأجر لله سبحانه وتعالى. هذا الكلام هو منه وإليه وفيه وعنه.
وإن كان لي من نصيحة في رمضان وأنصح نفسي وإخواني وأخواتي سواء في قطر والعالم، بأن نغتنم الفرص العظيمة في شهر رمضان المبارك لنحاول قدر الإمكان أن يكون شعارنا في هذا الشهر: «لن يسبقني إلى الله أحد». سأكون في الصلاة الأول، والأول في السُنن، الأول في القيام، والأول في قراءة القرآن والأذكار، وإنما هي أيام معدودات، هذه الأيام الفضيلة تمر بسرعة، علينا بالأعمال الخيرية الصدقات ومن لم يستطع فبابتسامة جميلة وكلمة طيبة.