أخلاق النبي عظيمة وثابتة حتى مع الأعداء
باب الريان
01 يوليو 2015 , 06:34ص
كان من أكبر أمنياتي أن أتوجه لكتابة تفسير مختصر للقرآن الكريم، وعزمت على ذلك وأعلنت هذا الأمل المتجدد، ودعوت الله أن يحققه لي، ليكون حاشية في مصحف قطر، بخط الخطاط المتقن عبيدة البنكي السوري، وبدأت بتفسير سورة الفاتحة وسورة النبأ، لكني وجدت أن ما يجول في خاطري من معاني القرآن يأبى أن يتقيد بحاشية مطبوعة على المصحف، فخرجت عن هذه الخطة إلى الكتابة المسترسلة، على طريقتي في التأليف التي اعتدتها منذ كتابي الأول: الحلال والحرام في الإسلام.
ووفق الله فأتممت تفسير جزء عم، وهأنذا قد أتم الله عليّ تفسير جزء تبارك، وأسأل الله أن يبارك في الوقت والجهد لأتم ما أؤمله من تفسير كتابه. وهذا جزء تبارك بين أيديكم، وقد قدمت -على طريقتي في تفسير جزء عم- لكل سورة بذكر أهم مقاصدها، ثم أفسر سائرها، جزءًا جزءًا، وآية آية، جاعلًا اهتمامي الأول أن أفسر القرآن بالقرآن، ثم بالسنة الصحيحة، جامعا بين العقل والنقل، والرواية والدراية، مستعينا أولا بالتأمل، ثم بقراءة التفاسير المهمة والاقتباس منها، ولن يعدم القارئ فيه فائدة، وسيجد فيه الخطيب والمحاضر والمدرس والداعية زادا نافعا.
تظهر عظمة أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم مع الأعداء، فلما جاءه اليمان وابنه حذيفة في غزوة بدر، وهم أقل عددًا وعُدَّة من المشركين، وكانا قد عاهدا المشركين ألا يحاربوا مع رسول الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لهما: «انصرفا، نفي لهم بعهدهم، ونستعينُ الله عليهم». أي: كونوا على عهدكما معهم، ما دمتما قد عاهدتماهم، ولا تنضمُّوا إليَّ.
حتى مع هؤلاء المحاربين يتعامل بهذه الأخلاق!
أخلاقه صلى الله عليه وسلم أخلاقٌ ثابتة، أخلاقٌ عظيمة، والمهم أنه يضع كل شيء في موضعه، الشدَّة في موضعها، واللين في موضعه، وهذه مهمة الأخلاق الفاضلة العليا، وليس أن تستعمل اللِّين مع من لا يستحق اللين، فأحيانًا الشدَّة تكون هي الخلق العظيم، كما فعل صلى الله عليه وسلم مع بني قريظة، فقد كانت بنو قريظة تستحق أن تُضرب ضربة قاضية، حتى لا تقوم لها قائمة مرة أخرى.
فكان النبي صلى الله عليه وسلم يضع العفوَ في موضعه، ويضع العقاب في موضعه، قال أبو الطيِّب المتنبي:
ووضْعُ النَّدَى في موضع السيف بالعُلا
مُضرٌّ كوضعِ السيفِ في موضع النَّدَى
لا بد أن يوضع كلُّ شيء في موضعه، فأخلاق النبي صلى الله عليه وسلم كانت أخلاقًا عظيمة، ولا يمكن أن يكون صاحب الخلق العظيم مجنونًا أبدًا، المجنون هل يعرف أحد للمجنون تصرُّفًا؟ هو يخرف ويقول ما لا يعرف، يعني مرة هكذا، ومرة هكذا، مرة تصيب، ومرة تخيب، إنما صاحب الخلق العظيم، الثابت على الفضيلة، الذي يضع كل شيء في موضعه لا يمكن أن يكون مجنونًا، ولذلك قال في هذا السياق: {مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}.
ولذلك جعله الله أُسوة للبشر كل البشر، من كان يرجو الله واليوم الآخر: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُواللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا} [الأحزاب:21]، أسوة لكل واحد: للشاب، للزوج، زوج الواحدة، وزوج الأكثر من الواحدة، للأب، للجد، للمسالم، للمحارب، للتاجر، للرئيس، للمحكوم والحاكم، للغني والفقير، للمنتصر وللمنهزم.
كل إنسان يجد أُسوة في سيرة هذا الرسول، وفي أخلاق هذا الرسول، صلوات الله وسلامه عليه، وقد قال صلى الله عليه وسلم: «إنما بُعثتُ لأُتَمِّم صالحَ الأخلاق». فالأخلاق ومكارمها في تمامها وكمالها في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم نظريًّا، وفي سيرته عمليًّا.
كلام الإمام القرطبي في معنى الخلق العظيم:
نقل القرطبي في تفسير قوله تعالى:{وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، عن علي رضي الله عنه قال: «الخُلُق العظيم هو أدب القرآن.
وقيل: هو رفقُه بأمَّته وإكرامه إيَّاهم.
وقال قتادة: هو ما كان يأتمر به من أمر الله، وينتهي عنه ممَّا نهى الله عنه.
وقيل: أي إنك على طبْع كريم. قال الماوردي: وهو الظاهر .
ثم قال: (وحقيقة الخُلُق في اللغة: هو ما يأخذ به الإنسان نفسه من الأدب. يُسمَّى خُلُقًا؛ لأنه يصير كالخِلقة فيه. وأما ما طُبع عليه من الأدب فهو الخِيم (بالكسر)، أي: السَّجيَّة والطبيعة، لا واحد له من لفظه. وخِيم: اسم جبل. فيكون الخُلُق الطبعَ المتكلَّف. والخِيمُ الطبعَ الغريزي.
وقد أوضح الأعشى ذلك في شعره فقال:
وإِذا ذو الفُضول ضنَّ على المولى
وعادت لخِيمِها الأخلاقُ
أي: رجعت الأخلاق إلى طبائعها.
قلتُ- أي القرطبي-: ما ذكرته عن عائشة في صحيح مسلم أصحُّ الأقوال. وسئلت أيضًا عن خلقه عليه السلام، فقرأت: {قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ} [المؤمنون:1] إلى عشر آيات. ولم يُذكر خُلُق محمود، إلا وكان للنبي صلى الله عليه وسلم منه الحظُّ الأوفر.
وقال الجُنيْد: سُمِّي خُلُقه عظيمًا؛ لأنه لم تكن له همَّة سوى الله تعالى.
وقيل: سمِّي خُلُقه عظيمًا لاجتماع مكارم الأخلاق فيه، يدل عليه قوله عليه السلام: «إن الله بعثني لأتمِّم مكارم الأخلاق».
وقيل: لأنه امتثل تأديب الله تعالى إيَّاه بقوله تعالى: {خُذِ الْعَفْو وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ} [الأعراف:199].
وقد روي عنه عليه السلام أنه قال: «أدَّبني ربي تأديبًا حسنًا، إذ قال: {خُذِ الْعَفْووَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ} [الأعراف:199]، فلما قَبِلتُ ذلك منه قال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}».
الثانية: روى الترمذي، عن أبي ذر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اتق الله حيثما كنتَ، وأتْبِع السيئةَ الحسنةَ تمحُها، وخالقْ الناس بخلق حسن». قال: حديث حسن صحيح.
وعن أبي الدرداء أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ما شيءٍ أثقل في ميزان المؤمن يوم القيامة من خُلُقٍ حَسَن، وإنَّ الله تعالى ليُبغض الفاحش البذيء». قال: حديث حسن صحيح.
وعنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من شيء يوضع في الميزان، أثقل من حُسْن الخلق، وإنَّ صاحب حسن الخلق ليبلغ به درجة صاحب الصلاة والصوم». قال: حديث غريب من هذا الوجه.
وعن أبي هريرة قال: سُئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يُدخل الناس الجنة؟ فقال: «تقوى الله، وحُسن الخلق». وسئل عن أكثر ما يُدخل الناسَ النارَ؟ فقال: «الفمُ، والفرْج». قال: هذا حديث صحيح غريب.
وعن عبد الله بن المبارك أنه وصف حُسن الخُلق، فقال: هو بَسْط الوجه، وبَذْل المعروف، وكفُّ الأذى.
وعن جابر: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ من أحبِّكم إليَّ، وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة: أحسنكم أخلاقًا». قال: «وإن أبغضَكم إليَّ وأبعدَكم مني مجلسًا يوم القيامة: الثرثارون، والمتشدِّقون والمتفَيْهِقون». قالوا: يا رسول الله، قد علمنا الثَّرثارون، والمتَشدِّقون، فما المتفيهقون؟ قال: «المتكبِّرون». قال: وفي الباب عن أبي هريرة وهذا حديث حسن غريب».
المسائل الثلاث للإمام الرازي
في الآية الكريمة:
ذكر الإمام الرازي في قوله تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} مسائل ثلاثًا لها دلالتها:
المسألة الأولى:
قال فيها: (اعلم أن هذا كالتفسير لما تقدم من قوله: {بِنِعْمَةِ رَبِّكَ}، وتعريفٌ لمن رماه بالجنون بأن ذلك كذِبٌ وخطأ؛ وذلك لأن الأخلاق الحميدة، والأفعال المرْضِيَّة، كانت ظاهرةً منه، ومن كان موصوفًا بتلك الأخلاق والأفعال، لم يجُز إضافة الجنون إليه؛ لأن أخلاق المجانين سيئة، ولمَّا كانت أخلاقه الحميدة كاملة، لا جرم وَصَفَها الله بأنها عظيمة، ولهذا قال: {قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ} [ص:86]. أي: لست متكلِّفًا فيما يظهر لكم من أخلاقي؛ لأن المتكلِّف لا يدوم أمرُه طويلًا، بل يرجع إلى الطبع.
وفيه دقيقة أخرى وهي قوله: {لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، وكلمة (على) للاستعلاء، فدل اللفظ على أنه مستعلٍ على هذه الأخلاق، ومستولٍ عليها، وأنه بالنسبة إلى هذه الأخلاق الجميلة، كالمَوْلَى بالنسبة إلى العبد، وكالأمير بالنسبة إلى المأمور.
المسألة الثانية:
الخُلُق: ملكة نفسانيَّة، يسهل على المتَّصف بها الإتيان بالأفعال الجميلة. واعلم أن الإتيان بالأفعال الجميلة غير، وسهولة الإتيان بها غير، فالحالة التي باعتبارها تحصل تلك السهولة هي الخُلُق.
ويدخل في حسن الخُلُق التَّحرُّز من الشح والبخل والغضب، والتشديد في المعاملات، والتحبُّب إلى الناس بالقول والفعل، وترك التقاطع والهجران، والتساهل في العقود كالبيع وغيره، والتسمُّح بما يلزم من حقوق من له نسب، أو كان صهرًا له، وحصل له حق آخر.
المسألة الثالثة:
أن الله تعالى وصف ما يرجع إلى قوته النظرية بأنه عظيم، فقال: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا} [النساء:113]. ووصف ما يرجع إلى قوته العملية بأنه عظيم، فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، فلم يبق للإنسان بعد هاتين القوتين شيء، فدل مجموع هاتين الآيتين على أن رُوحَه فيما بين الأرواح البشرية، كانت عظيمة عالية الدرجة، كأنها لقوتها وشدَّةِ كمالها كانت من جنس أرواح الملائكة).