يستذكرون تغير الأجواء من «المسحراتي» إلى «الموبايلاتي».. رمضان في ذاكرة «كبار القدر» ألفة وتراحم

alarab
الملاحق 28 مارس 2025 , 01:25ص
يوسف بوزية

 نعمة عبدالله: الحنين إلى زمن البساطة
عبدالله الحاج: كان لكل فريج مسحر خاص
عبدالله العمادي: كان الجيران يتبادلون الهدايا

 

يحمل «كبار القدر» الذين جاوزوا العقد السادس من عمرهم كنوزاً من الذكريات والحكايات المحملة بروائح الماضي الجميل. لا مفر من الافتتان بها. يستذكرون لـ «العرب» مظاهر الشهر الفضيل في زمن مضى ومعاناة الصائمين في شهر «آب اللهاب»، حيث الوسائل البسيطة والإمكانيات المحدودة لا تُسمن أو تُغني من جوع، وحيث الناس كانوا يدفعون الرطوبة والحرارة عن كاهلهم بـ «المهفّة» المصنوعة من الخوص، أو يعمدون إلى رش الثياب بالماء البارد أو يضعون «القربة» فوق أجسادهم حين يخلدون إلى الراحة كإحدى وسائل التبريد في ذلك الوقت.
الحنين إلى أيام زمان هو حنين إلى البساطة وصلة الرحم. إلى صوت المسحراتي الذي كان يجوب الفرجان ليوقظ الناس بصوته الشجي أو بصوت الطبلة التي كان يحملها مع العصا مردداً: «يا أهل الله قوموا تسحروا».

قلة الموارد
بصوته الخافت وجسده النحيل الذي ينوء تحت ستة عقود ونيف، أمضى القسم الأكبر منها بائعاً في محل مواد غذائية بسوق واقف، يستعيد الحاج نعمة فرج عبدالله، صاحب المحل، ذكرياته الجميلة عن الشهر الكريم قبل أكثر من أربعة عقود. لعل أبرزها البساطة في مظاهر العيش والصوم في ظل انعدام وسائل التقنيات الحديثة، كان الناس يعيشون على البركة والبساطة من دون تعقيد رغم قلة ذات اليد والموارد. كانوا يُصلون في المساجد ثم يعودون الى أسواقهم وبيوتهم التي تصالحت مع البساطة لقرون.
وأشار إلى أن سفرة الطعام في رمضان آنذاك لم تكن تحظى بهذا التنوع الذي نراه اليوم بفضل الله وحمده، وكان الإفطار والسحور عبارة عن طبق أو اثنين إما ثريد أو هريس أو رز ابيض، ولا يوجد تنوع كثير في البضائع في الأسواق، كانت الأسواق عبارة عن بضعة محلات «دكاكين» وكنا نتموّن منها لشهر رمضان المبارك من تمر وسمن وغيره.
كان الجميع يحتفل بقدوم الشهر الفضيل وكانت الأسر القطرية تستعد لاستقباله بالزينة وبشكل احتفالي وقبل قدومه بفترة بتجديد مستلزمات المطبخ وتهيئة المنزل للسهرات والمجالس والتي كانت من طقوس احتفالات الناس بشهر رمضان حيث كان الجميع يلازمون المجالس بينما الشباب الآن يلازمون الشاشات والكافيهات في طقوس حديثة لم نكن عهدناها من قبل قط.

الألفة والتراحم
ويستذكر الحاج عبدالله نصرالله الحاج، أجواء الألفة والتراحم التي كانت سائدة في رمضان أيام زمان وكذلك أواصر المودة والتآلف في الفريج الواحد. حيث الأهالي كانوا أسرة واحدة في توادهم وتراحمهم يتجمعون بلا ميعاد ويتبادلون الآراء والوجبات أيضاً، كان الجميع ينتظر قدوم شهر رمضان بشوق ولهفة، حيث تجتمع العائلات حول موائد الإفطار، وتدوي أصوات المدفع وقت الإفطار، فيما كان الأطفال يجوبون شوارع الفريج ليلا، مرددين وراء المسحر «يا أهل الله قوموا تسحروا»، بينما المسحر يحمل «الزبيلي»، وهي سلة مصنوعة من سعف النخيل ويطرق على أبواب المنازل بعصا كان يحملها في يده.
كان الناس ينامون في وقت مبكر بخلاف الوقت الراهن، ويحتاجون في شهر رمضان إلى من يوقظهم للسحور قبيل موعد أذان الفجر، ومن هنا كانت مهنة (المسحر) الموسمية التي ترتبط بشهر رمضان المعظم ارتباطا وثيقا، وكانت تلك السلة تملأ مرتين خلال شهر رمضان، الأولى بالحلوى والمكسرات في منتصف شهر رمضان، والمرة الثانية بالنقود في ليلة العيد، وذلك على سبيل المكافأة للمسحراتي الذي كان يجوب الشوارع قبل الفجر لإيقاظ النائمين لتناول وجبة السحور قبل دخول وقت الصيام ويحرص على أن يتأكد بنفسه من استيقاظ النائمين للسحور قبل أذان الفجر.وكان في كل فريج من مناطق دولة قطر مسحر خاص به، وبعضها أكثر من مسحر حسب مساحة الفريج وعدد سكانه، حيث يبدأ المسحر جولته قبل موعد الإمساك بساعتين تقريبا، موضحا أنه في السابق كان أهل الفريج يعتمدون على صوت المسحر أثناء المرور بالقرب من منازلهم لإيقاظهم من النوم لتجهيز السحور وتناوله قبل موعد أذان الفجر بوقت كاف.

الهريس الطبق الرئيس
ورغم اقتحام العديد من الأصناف المتنوعة خصوصية المطبخ القطري، يحافظ الحاج عبدالسلام العمادي، 68 عاماً، على عاداته الغذائية وتقاليده الرمضانية منذ زمن بعيد، حيث يبدأ إفطاره بتناول حبات من الرطب واللبن الرائب، قبل «انغماسه» في طبق «الهريس» و»الثريد» والأخير عبارة عن رقائق من خبز التنور، مضافاً اليها مرق اللحم أو مرق الدجاج، مع قليل من الخضار، وأما الهريس فيبقى الطبق الرئيس ويُصنع من القمح المهروس جيداً مع اللحم مضافا اليه السمن البلدي والقرفة المطحونة.
ويتحدث الحاج عبدالله العمادي، الذي يمتلك محلاً لبيع الأقمشة المستوردة، عن بركات الشهر الفضيل، إذ يؤكد أن صلة الرحم وتبادل الزيارات بين الأهل والأقارب وتحلق أفراد الأسرة على مائدة الإفطار يبقي للشهر الفضيل شيئا من رونقه الأصيل، فلم يتبق الكثير من تقاليد الشهر الكريم بعد انحسار العديد من مظاهره إلا قليلاً، بينما الطقوس الحديثة لا تناسب كبار السن، كان الناس يتبادلون الهدايا البسيطة بما فيها الأطباق الشعبية ويردون الهدية الرمضانية بأحسن منها.
كان أهل الفريج الواحد أسرة واحدة يتحلقون حول «الغبقات» الرمضانية ويتبادلون المشورة والنقاشات بينما الأطفال الصغار يتقافزون في دروب الفريج أو على شاطئ البحر.
كان الناس يعيشون على البركة والبساطة. كان المسحر يطوف مع طلبته على بيوت الفريج للإعلان عن وقت السحور وإخبار العامة عن هذا الموعد، واختفى مثل كثير من المظاهر الجميلة التي زينت المشهد الرمضاني.

نصيب وافر من الجوع والعطش
يقول الحاج جاسم عباس ان رمضان زمان كان أجمل وأصفى على رغم صعوبة العيش وقلة ذات اليد، كانت الحياة بسيطة ومن يمتلك القليل من التمر والماء يشكر الله على هذه النعمة العظيمة، أو ربما القليل من المواد الغذائية الاخرى التي كانت تصنع محليا من القمح والشعير والحنطة والبر، ويصنع منها الخبز واللبن. كان الجميع يتحلى بالقناعة والرضا بالمقسوم، ولكن في أشهر الصيف تكون الأحوال أكثر صعوبة نظراً لقلة مصادر المياه، وكان الرطب ضيفاً يومياً على مائدة الإفطار، إنما بكميات بسيطة، إذ ليس بمقدور الجميع توفيره كما يحدث الآن. كان يتوافر مع أصحاب المزارع.
كان الناس يسهرون حتى وقت متأخر وقد يكون ذلك حتى وقت السحور، بعد ذلك يتجه راعي البحر الى الصيد والمزارع الى النخل، بعد ان يأخذا قسطاً وافراً من الراحة. كانت المهن محصورة في الغوص أو رعي الحلال أو الزراعة وكلها أعمال شاقة تمارس في أماكن مكشوفة تحت أشعة الشمس الحارقة. كان لهم نصيب وافر من الجوع والعطش لدرجة أنهم كانوا يعمدون إلى رش الثياب بالماء البارد والبعض الآخر كان يضع «القربة» فوق جسده حين يخلد إلى الراحة كإحدى وسائل التبريد في ذلك الوقت، إلى جانب استخدام «المهفة» اليدوية المصنوعة من الخوص ولها مقبض خشبي مصنوع من جريد النخل.

لا وجبات سريعة ولا مسلسلات
الحنين إلى أيام زمان هو حنين إلى البساطة وصلة الرحم. إلى صوت المسحراتي الذي كان يجوب الفرجان ليوقظ الناس بصوته الشجي أو بصوت الطبلة التي كان يحملها مع العصا الأمر الذي غاب تماما هذه الأيام. في ظل تغيرات الحياة ووسائل التكنولوجيا الحديثة التي أثرت بشكل كبير على كل مناحي الحياة اليومية، «يقول الحاج جاسم».
من العادات الجميلة التي اندثرت و»كنا اعتدنا عليها قديما» هي تبادل الأطباق، بين الأهل والجيران والاصدقاء على مدار هذا الشهر، كانت عادة جميلة متوارثة مستمدة من روح ديننا الإسلامي الحنيف وصلة الرحم والمودة، وفرصة للتصافي والتصالح وتنقية النفوس، وهي عادة كانت تسهم في تعزيز روح الجماعة وتقوية أواصر المحبة بين أفراد العائلة الواحدة والجيران.