سوق واقف.. قصة جوهرة تراثية

alarab
نفحات رمضان 28 مارس 2024 , 01:14ص
د. علي عفيفي علي غازي

يُمثل سوق واقف تجربة قطرية ناجحة في إعادة تأهيل المناطق التراثية، فما إن تطأ السوق حتى تغمرك عظمة، وسحر تراث قطر النابض بالحياة، ففي قلب الحداثة يُمثل هذا السوق جوهرة تراثية جميلة، تُسافر بين دروبه وأحيائه إلى التاريخ، وتستنشق عبق الماضي، في سحر وإبداع، وكرم الضيافة العربية الأصيلة، وتتجسد فيه روعة الفن المعماري الأصيل، بالإضافة للصناعات والحرف التقليدية، والمشغولات التراثية، والمعارض والمحلات التي تحمل زخمًا ثقافيًا، وسط سيمفونية من اللهجات واللغات المختلفة، ليمثل ذاكرة من الزمن الجميل، وحضور التراث والثقافة والتاريخ.

وكانت مباني وعمارة هذا السوق من المواد المحلية كالجص والطين، إذ إن المنطقة مرتفعة الحرارة طوال العام تقريبًا، ولهذا حرص البناؤون فيها على استخدام مواد بناء تُخفف من حرارة الجو، فكانوا يستخدمون في الأسقف جذوع النخيل والجريد والسعف والحصير، ثم تفرش بالطين من فوقها، ويُروى أنهم كانوا يستخرجونه من حفر في روضة الخيل. وقام بعض أصحاب المحلات بوضع ما يُعرف «التختة بند» تحت السقف ليمنح محله شكلا أكثر حداثة، وكانت أبواب المحلات من المصنوعات الخشبية، التي تصنع من أخشاب يتم استيرادها من الهند، وتُظهر الصور التي ترجع إلى الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين أن ممرات السوق كانت مغطاة بالخيش والأقمشة التي كانت تتخلف من أكياس الأرز والطحين، فلم يكن الوضع الاقتصادي يسمح بحماية الممرات من الشمس بأكثر من ذلك. 

أزمنة غابرة
ولسوق واقف تاريخ عريق يعود إلى أزمنة غابرة، إذ يروى أن وادي «مشيرب» كان يقسم الدوحة إلى نصفين (شرقي وغربي الوادي)، وكانت السيول تجري في الوادي شتاءً إلى مياه الخليج، مما كان يُسهم في تعميق هذا الوادي، ولأن أرضه كانت مشبعة بمياه البحر، فقد أطلق عليه القطريون مسمى «الخريس»، وكان هذا الممر يوميًا مسرحًا لحركة أهالي الدوحة، الذين كانوا يسكنون على ضفتيه، ويجتمعون للبيع والشراء، بين بعضهم البعض، ويتبادلون السلع مع أهل البادية، ولضيق الممر الذي تركته مياه البحر الدافقة، فقد كان الباعة يقفون طيلة النهار لاستحالة الجلوس على الحواف نظرًا لضيق المكان، ولذا سُمي بسوق واقف.
ومما هو جدير بالملاحظة أن هذه التسمية (سوق واقف) منتشرة في معظم بلدان الخليج العربي، إذ يوجد سوق واقف في الكويت، وسوق واقف في البحرين، مما يدل على أن الأسواق المؤقتة تأخذ في بعض الأحيان هذه التسمية.
وسوق واقف هو أقدم سوق في الدوحة، وربما كان أقدم مكان ذي خصوصية فيها، فمنذ أن استقر القطري في هذا الجزء من قطر في تاريخها الحديث؛ برز الجانب الاقتصادي الحيوي لحياة الناس اليومية من بيع وشراء، وهو ما جعل السوق يحظى بأهمية خاصة، وبمرور الوقت كبر واتسعت مساحته حتى أخذ يزحف على البيوت المجاورة حول المكان، وبعد أن كان سوقًا مؤقتًا تتم فيه عملية التبادل التجاري والباعة واقفون أو متجولون، بنيت فيه الدكاكين والمحلات والعماير.

قيمة إضافية للسوق
وقد أخذ سوق واقف بالنمو الاقتصادي في القرن العشرين بعد أن نعمت قطر بالاستقرار السياسي، فتحولت البيوت الواقعة على ضفتي وادي مشيرب إلى دكاكين، ثم استحدثت أرصفة لتفريغ حمولات السفن الآتية عبر الخليج العربي محملة بالمواد الغذائية ومواد البناء.
وقد تميز السوق بأن منزل الشيخ محمد بن ثاني وجامعه كانا ملاصقين له، مما أعطى للسوق قيمة إضافية لكونه قريبًا من حرم شيخ الدوحة، وإلى الشرق من منزل الشيخ محمد كان منزل ابنه الشيخ جاسم، المؤسس، ومسجد بو القبيب. ولهذا كان موقع السوق في قلب الأحداث ومركز العاصمة التاريخية لقطر، لذا يمثل مكانه أهمية للأجيال الحالية والقادمة لارتباطه بقطر وتاريخها.
وكان سوق واقف يضم ثلاثة أنواع من المحلات:
العماير: وهي المخازن الكبرى التي تتعاطى الأعمال التجارية بالجملة والمفرق وتخزن مواد البناء والأغذية كالتمور والأرز وغيرها.
الدكاكين: وهي التي تحتوي على مختلف المصنوعات اليدوية والحرفية كالخياطة والحياكة والنجارة وغيرها.
البسطات: وهي التي يُقيمها الباعة في الهواء الطلق. 

مهن وحرف
أما عن المهن والحرف التقليدية التي مورست في سوق واقف، فتتمثل في:
العكاس، أي المصور
والمحسّن، أي الحلاق
والخباز، وراعي السعف، ومصلح الراديو (بعد ميلاد الإذاعة)
والصفار الذي يقوم بتلميع وإصلاح وترميم الأدوات النحاسية القديمة
والنجار، والحمال والحداد الذي يقوم بصناعة الأدوات من الحديد مثل الفأس والمطرقة والسيوف والخناجر والقدور والصحون وغيرها. 
والصايغ الذي يقوم بصناعة الحلي الذهبية وإصلاحها
والنداف الذي يقوم بصناعة الفرش والمخدات والوسائد والأبسطة، ويقوم بترميم وخياطة القديم منها
وكانوا يسمون خياط الثياب خياطا، أما خياط العباءات الرجالية فيطلقون عليه صانع البشوت أو خياط البشوت
والخراز، أي صانع النعل ومصلحها.
هذا بالإضافة للمقاهي الشعبية، كما عرف الفنادق، والتي كان يطلق عليها حينئذ النزل، وكان أول نزل وأول مطعم فيه يحمل اسم «بسم الله».
وقد تخصصت عائلات قطرية في مهن وحرف وتجارة معينة، ومنها مثلا، عائلة الصايغ، والحداد والنجار، عرفوا بهذه المهنة، واكتسبوا الاسم منها.
وترجع فكرة إحياء السوق إلى عام 2003، باعتباره رمزًا للهوية القطرية، ليروي للأجيال الحالية والقادمة قصة تراث عريق وخصوصية تميزت بها قطر في مكان يسكنه التاريخ والفن والإبداع. وقام المكتب الهندسي التابع لمكتب سمو أمير دولة قطر حينئذ، الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني، برئاسة سعادة حمد بن خليفة العطية، بالإشراف على هذا المشروع، وأخذ مبادرة إعادة تأهيله، حيث تم التعامل مع المشروع باهتمام يتناسب مع قيمة المكان التاريخية.
وقد روعي عند الإحياء أن تستخدم نفس مواد البناء التي استخدمها المعماري قديمًا، ومن خلال الصور الفوتوغرافية الملتقطة للسوق والدوحة في الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين، والاستعانة بروايات السكان الذين عاشوا في الموقع القديم.
واليوم أصبح سوق واقف حقيقة مجتمعية ملموسة ومعيشة في قطر بجميع أطيافها وثقافتها، وأصبح يشكل تراثًا ماديًا محسوسًا وتجربة يمكن معايشتها، وبعد أن كان يُغلق وقت الظهيرة، وبعد التاسعة ليلا، أصبح الناس يتوافدون على مطاعمه ومقاهيه التي تظل مفتوحة حتى الصباح الباكر.
وأصبح سوق واقف يمثل مكانًا مهمًا على جدول زيارات الرسميين والسياح لقطر، إذ يأسر زواره بسحره، ويمثل تجربة رائدة في إعادة تأهيل التراث وتوظيفه، والتعامل معه وفق الأسس العلمية الصحيحة، التي تحافظ على مضمونه، وتضعه في إطار يناسب الحداثة والعولمة.