

يُقسّم الباحثون المتخصصون التراث إلى نوعين رئيسين: التراث المادي، والتراث الثقافي غير المادي، إلا أن التطور الإلكتروني السريع في أجهزة الحواسيب وغيرها من الأجهزة التكنولوجية الحديثة، بات يفرض علينا مصطلحا جديدا هو «التراث الإلكتروني»، لكن يبقى التساؤل هل ما توارثناه أضحى فعلًا «تراث إليكتروني»؟ وهل من الممكن أن يستهوي أشخاصا يهتمون باقتنائه، ويُصبح هوايتهم؟ وهل من الممكن أن نرى في المستقبل القريب متاحف للتراث الإلكتروني؛ مثلما نرى متاحف للفضاء وعلومه؟
تجعلنا مجموعة عبد الرحمن السنيدي (ولد) نطرح كل هذه التساؤلات، التي قد لا نجد إجابة لها في الحاضر، ولكن من المتوقع أن تُصبح عين اليقين في المستقبل القريب، إذ إن هوايته تتمثل في اقتناء الأجهزة والبرامج والطابعات وغيرها من ملحقات الكمبيوترات، بالإضافة للكتب والمجلات المتخصصة في الحاسب الآلي وعلومه وفنونه وطرق صيانته وحفظه، تمتد إلى فترة زمنية طويلة؛ بل تُمثل بالنسبة له رحلة عمر، وتجربة حياة، فمنذ أن كان طالبًا يجلس كان على مقاعد الدراسة؛ قبل أن يتخرج حاملًا شهادة دبلوم معهد الإدارة في عام 1989، كان يقرأ ويسمع عن ثقافة الحاسب الآلي، التي لم تكن حينئذ منتشرة في قطر إلا عند أشخاص معدودين، فشعر بأهمية الحاسب الآلي، وبضرورة استخدامه ونشره وتعليمه، وبعد التخرج التحق بالعمل بإدارة الشؤون الإدارية والمالية بوزارة الإعلام (حاليًا المؤسسة القطرية للإعلام)، إدارة الإذاعة، في ثمانينيات القرن العشرين، بدأ اهتمامه بعلوم الحاسب الآلي، ومن ثم انتبه مبكرًا إلى أن الحاسب الآلي ومكملاته من البرامج والمطبوعات والأجهزة الملحقة كالطابعات والماسحات الضوئية، باتت تُمثل جزءًا من التراث الإنساني العولمي أو الكوني، فتشكلّت لديه هواية اقتنائها وجمعها، وأصبح يمتلك مجموعة خاصة متميزة.
حكاية السوق التجاري
نبت اهتمام السنيدي بمجال الحواسيب الآلية؛ نتيجة أنه كان يتردد مع أصدقائه، ومنهم وليد العبيدلي وشبيب الدوسري، على السوق التجاري في فندق «سوفيتل» بمنطقة مشيرب، حيث كان هذا السوق في سبعينيات وثمانينيات القرن العشرين قبلة الهواة والمهتمين والمحترفين في مجالات التكنولوجيا المتعددة ما بين المشتري والمستفسر والراغب في الصيانة، إذ كان يضم بين جدرانه كل المحلات المتخصصة في هذا المجال في دولة قطر تقريبًا، وكان هو وأصدقاؤه يذهبون إليه يوميًا بعد الانتهاء من أعمالهم؛ لأجل قضاء أمسيتهم حتى تُغلق المحلات أبوابها في التاسعة ليلًا تقريبًا، فبات يمثل صالونًا ثقافيًا يتخصص فيما يخص الحواسيب الإلكترونية وملحقاتها، يتبادلون الآراء والنصائح، ويتعرفون على الجديد في مجالات التكنولوجيا المختلفة، كما كان يتردد على مكتبة العروبة في شارع الشيخ عبد الله بن ثاني، والتي كانت حينئذ المصدر الوحيد عن ما يستجد من معلومات في دنيا الحاسب الآلي، إذ كانت وكيل معظم شركات أجهزة الحواسيب، وكان ذلك السبب الرئيس في أن تُفصح هوايته عن نفسها، إذ بدأ اهتمامه بجمع هذه المقنيات منذ حوالي عام 2011، وبدأ أولا بنفسه وبيته، فجمع المتوفر، ثم اتجه لجمع ما لدى الأصدقاء، ومع تطور التكنولوجيا والانترنت أصبح يطلب المقتنيات من خارج قطر، حتى تكونت لديه مجموعة كبيرة تزيد عن 500 قطعة ما بين وأجهزة وبرامج ومطبوعات، كلها تحكي وتوثق لتاريخ الحاسب الآلي عالميًا.
محاضرات متخصصة
لم يكتف السنيدي بالجمع؛ بل اهتم بالقراءة في تاريخ الحاسب الآلي، وقدم محاضرات عنه في عدد من المدارس، كما قدم محاضرة عن «تاريخ التكنولوجيا في قطر»، ضمن فعاليات معرض كوبنهاجن الدولي للكتاب العربي في 18 أكتوبر 2020، واستضافه برنامج «حوار مع» والذي يبث على قناة الملتقى القطري للمؤلفين في لقاء بعنوان «التكنولوجيا في قطر النشأة والتطور»، بشهر مارس 2021، ثم اتجه إلى تنظيم المعارض التي تُعرّف بنشأة وتطور الحاسب الآلي عبر رحلته التاريخية، وتؤرخ لدخوله قطر، وتدعم ثقافة المعارض التي تعرّف بأقدم الأجهزة التكنولوجية، وذلك في الحي الثقافي (كتارا) الأول في سنة 2014، والثاني في العام التالي (2017)، وأخيرًا بصدد إصدار كتابين، الأول بعنوان «المجموعات والمكتبات الخاصة في قطر»، والثاني «التكنولوجيا في قطر.. النشأة والتطور»، وبالإضافة لذلك يهتم بتاريخ قطر، وتطور الحياة العامة فيها، في مظاهرها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، انطلاقًا من أيديولوجيته التي ترى أن توثيق التاريخ مهم؛ لأنه هو المرجع والسند للأجيال الحالية والمستقبلية.
تعريف بتطور التكنولوجيا
وتضم مجموعته الخاصة مقتنيات نادرة من البرامج والأجهزة ترجع لعام 1981، ومطبوعات ما بين الكتب والمجلات والدوريات التي ترجع لعام 1925، توثق لتطور الحاسب الآلي، وتُعرّف ببدايات الحواسيب والشخصيات التي قامت بتصميمها وتطوير قواعد ومبادئ هذا الاختراع، ما جعله يفكر في إنشاء مجموعة مقتنيات شخصية خاصة بالبدايات الأولى لهذه التقنية، كي يُعرّف الجيل المعاصر بتطور هذه التكنولوجيا، وكيف كانت وكيف أصبحت الآن؟ وكيف نبتت فكرة الحاسب الآلي عند الغربيين؟ وكيف كان يفكر فيها القدماء؟ وكيف عملوا على تطويرها؟ فالتطور السريع يجعل الحواسيب الحالية موروثا ثقافيا وتاريخيا غدًا، حيث إن مفهوم الحاسب الآلي نفسه قد تغير، ففي الماضي كان يتكون من عدد من الأجهزة تجتمع معًا، أما الآن فقد أصبح جهازا يشغل أقل حيز، ووصل إلى أن أصبح في اليد في شكل «تابلت» أو «تليفون»، ولكن يظل الكمبيوتر الأساس في التصميمات والطباعة والإنترنت والشبكات وغير ذلك. وهكذا تمثل مجموعة السنيدي للأجهزة والبرامج والمجلات العربية والأجنبية والخاصة بالحاسب الآلي تجربة فريدة ورحلة عمر، تؤرخ لحكاية قصة نشأة وتطور الحاسب الآلي في قطر؛ بل والعالم.