مسرحية «الكلب».. والثورة آتية ولو طال السفر

alarab
ثقافة وفنون 25 مايو 2011 , 12:00ص
العرب

نجح المخرج والمعد حمد الرميحي في أن يقدم لنا من خلال هذا العرض فلسفة حياتية ورسائل سياسية عميقة وكان ذلك واضحا من خلال توظيفه لتلك الشخوص ودوافعها وتوظيف الحدث والفعل الدرامي في دلالات واضحة وواثقة منذ بداية العرض. فأهل تلك القرية يجتمعون للاحتفال ليس بالأغا نفسه، إنما بعيد ميلاد كلبه «بارود» وهذه دلالة واضحة في رمز «الكلب» ودلالة في مفردة اسمه «بارود» كأنما أراد المخرج أن يوجه انتباهنا منذ البداية أن ترتيبنا في سلم الأهمية والأولوية وترتيب أهل تلك البلدة هو مقام الكلب فقط وليس أعلى من ذلك.

والكلب أيضا في دلالته في هذا العرض يشير إلى بطانة السوء وحاشية الأغا التي تقبع تحت أرجل الأغا وتخدم أهدافه الاستعمارية والاستبدادية وتحول بينه وبين الناس وتحول بينه وبين غضب الناس. والبارود والنار هو الفاصل بينه وبين عامة الناس وهو حدّهم في اللقاء وهو المتاح لهم في الاحتفاء به، دون الوصول إليه لطرح المظالم. إنما صوره تهيمن على المكان، ويأتي الصوت من وراء القصر في عنجهية وصلف لمزيد من القهر والاستبداد.

عندما يأتي خبر موت الأغا وهم يحتفلون بكلبه وهو حد تماسهم مع الأغا ومع الحاكم. يصاب الجميع بالدهشة الممزوجة بالخوف وهم بين مصدق ومكذب. كأنما في قناعاتهم أن الأغا لا يفني ولا يطاله الموت وهذه هي الأوهام وحواجز الوهم التي تصنعها بطانة الحاكم وحاشيته وتعمل هي من خلفه آمنة مؤمنة وتحول بينه وبين عامة الشعب. كلاب تحرس وتطالبنا بالاحتفاء بها وهو مبلغ حد تماسنا مع السلطة لذلك جاء نبأ موت الأغا صادما وأزالت الصدمة تلك الحجب وانقشعت تلك الغمامة من الأوهام لينقسم المكان والاحتفال إلى معسكرين. معسكر بقيادة شاعر القرية والشعراء، والفنانون هم دائما نبض الأمة وحاديها في قيادة الركب والتغيير، ويضم هذا المعسكر ثائر القرية أيضا وبعض الذين انكشفت عنهم حجب الأوهام وزالت عنهم الغشاوة، ولا يخلو مجتمع من بذور وعي وبذور استنارة تقاوم الظلم وتنير الطريق للناس.

في وسط هذين المعسكرين المتصارعين وهذين الطرفين نجد بقية عامة أهل البلدة وما فعل بهم الخوف وسياط القهر وحوّلهم إلى كائنات مستسلمة وخائفة وخانعة، يتأرجحون كالبندول بين طرفي النزاع في العرض ولا يجدون حرجا في التفكير لتشكيل وفد من البلدة للعزاء في الأغا السابق وتقديم فروض الولاء والطاعة للأغا الجديد مقدمين ولاءهم له بأنهم فداؤه وأنهم كلابه التي يستطيع أن يقودها بسلاسل ظلمه واستبداده وأنهم كلاب خانعة وطيعة تحت أرجله وأرجل حاشيته.

ويتصاعد الرفض من قبل الشاعر وثائر القرية فيحاولان تحريض الأهالي على سلطة الأغا الجديد والتمرد عليه بعد أن زالت الحجب والظلم والاستبداد بموت الأغا السابق محاولين دفعهم إلى التمرد وكسر حاجز الخوف، فيتم إعدام الثائر أمام بصر أهل البلدة في رسالة واضحة لهم بأن النار و»البارود» مصير من يتململ ويحاول التمرد على سلطة الأغا الجديد ويزرعون حالة من الخوف ويكثفونها بين الأهالي بالتهديد تارة والترغيب تارة.

وتصبر الشعوب متحملة الظلم والاستبداد والقهر ولكن للصبر حدود ولا بد للبركان أن ينفجر يوما وتجرف حمم غضبه الظلم وكراسي القهر والاستبداد. وكلما زادت نار القهر واليأس والإحباط والفقر كلما زاد غليان القدر والمرجل وانفجر يوما في وجه جلاديه، وكانت حادثة القصر وطردهم كالكلاب هي القشة التي قصمت ظهر البعير والشرارة التي أشعلت فتيل الثورة وفتيل التمرد والرفض لظلم الأغا وحاشيته وزمرته فأعلنوها ثورة في وجه ضابط البلدة وعسكره وثاروا عليه وطردوه شر طردة. وكان الضابط الدلالة التي تمثل رمز سلطة أغا البلاد الذي يطل علينا من خلفية المشهد. فالثورة لا محالة ولو طال السفر ولو طال الظلم والقهر، فالشعوب لن تبقى أبد الدهر رهينة جلاديها، وما يحدث في المنطقة الآن خير شاهد على ذلك.

الرؤية الإخراجية

استطاع المخرج حمد الرميحي أن يوظف بخبرته الواضحة عناصر عرضه المسرحي لتوصيل رؤيته ورسالته وشحنه بالدلالات والإشارات المكثفة في الحركة والإكسسوارات واستعماله الموفق للأثاثات، فالكراسي مثلا كان تحريكها تقاربا وابتعادا وضيقا وانفراجا للدلالة على حدة جدلية الصراع بين طرفي النزاع، ووضع هذه الكراسي في صفين متواجهين دلالة واضحة على تقابل وجهات النظر كأنما تنظر كل مجموعة في مرآة الأخرى، فوضع أهالي البلدة في مواجهة بعضهم البعض في صفين متقابلين ورمى بينهم الصراع حتى يفيقوا لأنفسهم ويكشفوا حقيقة قهرهم وظلم الأغا وزمرته، وكانت الدلالة والإشارة موفقة دون عناء وتعقيد وكثفت دوافع الشخوص وحركتها دون الدخول في حركات وتشكيلات بصرية مترهلة تفسد روعة العرض والصراع وتفسد الحبكة الدرامية.

كان استعمال المخرج للتكنولوجيا الحديثة والاستفادة من إمكانية السينما فيما يسمى حديثا بـ»المسرح المتعدد الوسائط» موفقا في إسقاط صور الأغوات على خلفية الخشبة مستعملا في ذلك «بروجكتور» لإسقاط الصور التي كثفت دلالات العرض وإشارات الصراع، وصارت صورة الأغا الجديد وصورة الأغا القديم هي السلطة المهيمنة على الناس دون حاجة لوجود الأغوات ماديا في سياق العرض. وكأنما يذكروننا بوجودهم وهيمنتهم وسطوتهم وإطلالتهم البهية ويخاطبوننا في صلف وعنجهية من وراء حجاب ومن وراء سطوة زمرهم وبطاناتهم ولا يتقدمون الصفوف لرد مظلمة أو رفع غبن أو إزالة فقر. بل يظهرون ويطلبون ودنا وأنهم قد فهمونا أخيرا بعد أن تقع الفأس في الرأس، كما فعل أحد زعماء المنطقة أخيرا.

رغم تدثر النص الأدبي خلف التاريخ وحكاياته البعيدة فإن مخرج العرض أشار لنا كثيرا كيلا ننسي أن التاريخ يعيد نفسه ويكرر أخطاءه في عصرنا الحديث وواقعنا الحالي المعاش ويتطابق معه، فكان استعماله لترنيمة عيد الميلاد الحديثة (happy birth ….) «عيد سعيد» دلالة على أن ما يدور أمامنا في لبوس التاريخ هو الزمن الحاضر. وكان استعماله وإسقاطه لشعارات الزمن الراهن والحاضر وهتافات الثورات العربية وثورة بعض الشعوب في وجه زعمائها دلالة وإشارة مكثفة للراهن والحاضر. وهذا يدل على حضور حي والتصاق مكثف للمسرح القطري بأحداث وقضايا المنطقة وهو دور المسرح ورسالته وأهدافه.