القرضاوي: دولة العسكرية القائمة على البطش والظلم مهزومة أبدًا

alarab
الصفحات المتخصصة 24 يونيو 2016 , 07:20ص
يوسف القرضاوي
حرصاً من جريدة "العرب" على استكمال الفائدة ومواصلة ما بدأته العام الماضي مع تفسير جزء تبارك للشيخ يوسف القرضاوي فإنها تواصل في أيام رمضان هذا العام نشر ما تبقى من تفسير الشيخ لجزء تبارك، علماَ أن الشيخ قال: صاحبت القرآن أكثر من سبعين عاماً، وكان محور دروسي ومحاضراتي وكتبي وخطبي وفتاواي التي نشرتُ بعضاً منها في أربعة مجلدات كبيرة، ولقد ألَّفْت في مختلف فنون الثقافة الإسلامية والفكر الإسلامي، في العقيدة والتفسير والحديث والتصوف والتاريخ والدراسات الإسلامية المعاصرة، وهي كثيرة..
وقد قاربت مؤلفاتي على مائتي كتاب بين الكبير والمتوسط والصغير، وتعددت موضوعاتها بين الفقه والفكر، وما يخاطب العقل، وما يسمو بالروح، وألفت في موضوعات القرآن مثل: (الصبر في القرآن)، و(العقل والعلم في القرآن) وفي علومه (كيف نتعامل مع القرآن)، غير أن الحنين أن أنضم إلى قافلة مفسري القرآن، وأن أؤلف في تفسير القرآن ظل يراودني الفَينة بعد الفينة، فلقد أممت الناس ما يقارب (نصف قرن) في قطر في صلاة التراويح، وألقي درساً بعد الركعات الأربع الأولى عن بعض الآيات التي قرأتها، وكنت قد أُعِرْت إلى الجزائر عاماً، وهناك كان لي درس أسبوعي فسّرت فيه سورة يوسف كاملة، لكن للأسف لم ينشط أحد لجمعِها، وبعد عودتي إلى قطر اقترح علي بعض الإخوة أن يكون لي درس أسبوعي في مسجد عمر بن الخطاب، وأن أبدأ بسورة الرعد، ونشطت بعد ذلك لتفسير إبراهيم والحجر، وهي جميعا مطبوعة.
يستطرد الشيخ يوسف القرضاوي في تفسيره كتاب الله، ويقول في معنى {عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ}: «يرى الإمام القرطبي أن الصحيح في هؤلاء التسعة عَشَرَ، أنهم الرؤساء والنقباء، أما الملائكة المُوَكَّلُون بأهل النار، المشرفون على تعذيبهم، فقد قال القرآن عنهم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]».
في تفسير: {وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً * وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا} قال: «أي: وما جعلنا أصحاب النار وخزنتها والقائمين عليها من أمثالكم من الجن والإنس، ولكنَّا جعلناهم من جنس آخر، لا يقدر عليهم أحدٌ منكم، وإن تكاثرتم عليهم، فهم كما وصفهم الله في سورة التحريم: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 6]. وهذه الغِلظةُ والشدَّةُ التي وُصِفُوا بها، تجعل الجنَّ والإنسَ أمامهم ضعفاء، لا حَوْل لهم ولا طول.
{وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً} أي: بَلِيَّة. وروي عن ابن عباس من غير وجه قال: ضلالة للذين كفروا. يريد: أبا جهل وذويه. وقيل: إلا عذابًا، كما قال تعالى: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ} [الذاريات: 13-14]. أي: جعلنا ذلك سببَ كفرِهم وسبب العذاب».
وفي تفسير {لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} قال: «{لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} أي: ليُوقن الذين أعطوا التوراة والإنجيل أن عِدَّة خزنة جهنم موافِقَة لما عندهم، قاله ابن عباس وقتادة والضحَّاك ومجاهد وغيرهم. ثم يحتمل أنه يريد الذين آمنوا منهم، كعبدالله بن سلام. ويحتمل أنه يريد الكل».
وفي قوله: {وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا} قال القرضاوي: «وفي هذا دليل على أن الإيمان يزيد وينقص، يزيد بالعلم والمعرفة، ويزيد بالطاعات وفعل الخيرات، وينقص بالجهل والخرافة، وكذلك بالمعصية والانحراف، كما جاء ذلك كثيرًا في كتاب الله. ثم أكَّد الاستيقانَ وازديادَ الإيمان بما ينفي كلَّ ما يعتري ذلك من شبهة، فقال: {وَلَا يَرْتَابَ} أي: ولا يشكُّ{الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} أي: أُعطوا الكتاب (والمراد به: التوراة والإنجيل).{وَالْمُؤْمِنُونَ} أي: المُصدِّقون من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في أن عِدَّة خزنة جهنم تسعة عشر».
وفي قوله تعالى {وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} قال: «أي: في صدورهم شكٌّ ونفاق من منافقي أهل المدينة، الذين يَنْجُمُون في مستقبَل الزمان بعد الهجرة، ولم يكن بمكَّة نفاق، وإنما نَجَم بالمدينة. وقيل: المعنى أي: وليقول المنافقون الذين ينجُمون في مستقبَل الزمان بعد الهجرة. {وَالْكَافِرُونَ} أي: اليهود والنصارى {مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا} يعني: بعدد خزنة جهنم. وقال الحسين بن الفضل: السورة مكية، ولم يكن بمكَّة نفاقٌ، فالمرض في هذه الآية: الخِلَاف، والكافرون أي: مشركو العرب».
لا يعلم قوة جنود الله تعالى
غير الله:
وفي قوله تعالى {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُو} قال: «أي: وما يدري عدد ملائكة ربِّك الذين خلقهم لتعذيب أهل النار إلا هو، أي إلا الله جل ثناؤه. وهذا جواب لأبي جهل حين قال: أمَا لمحمدٍ من الجنود إلا تسعةَ عشر! والجنود جمع جند، وجمع جندي، والجندي هو الفرد من أفراد العساكر المجندين في جيش، يتميز بالسلاح والتدريب والنظام والطاعة للقيادة، ملكًا كان أو رئيسًا أو أمير جند، يقلون أو يكثرون، والملك القوي جنوده أقوياء، والملك الضعيف جنوده ضعفاء. وقد قال الله تعالى: {وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ * إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ * وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ} [الصافات: 171-173]. فجند الله دائمًا معروفون بأنهم دائمًا هم الغالبون، لأنهم الأكثر عددًا، كما قال تعالى هنا {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ}. وقال تعالى: {وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا} [الفتح: 7]، فمن كان عنده جنود السماوات والأرض - على سعتهما - فمن يملك مثل قوته؟ ومن يملك جندًا مثل جنده؟ ومن هذه الجنود: الملائكة الذين أنزلهم الله تعالى لنصرة رسوله في بدر والأحزاب وحنين، قال عن غزوة بدر: {وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ * بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ} [آل عمران: 123-125]. وقال: {إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ} [الأنفال: 12]. وقال تعالى: {أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ} [الملك: 20]. لذلك دمَّر الله تعالى جنود الفراعنة والمستكبرين في الأرض, ولم تُغن عنهم أسلحتهم ولا كثرتهم ولا تدريبهم ولا تنظيمهم، لأن قوة الله أكبر من قوتهم, ومكر الله أعظم من مكرهم. قال تعالى: {وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ* فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ* فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَة بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [النمل: 50-52]».
وقال فضيلته أيضا: «والقرآن الكريم يُبَيِّن لنا أن دولة الجنود أو دولة العسكرية التي تقوم على مجرد القوة والبطش وعدم رعاية العدل مع الشعب ومع الناس, هي دولة مهزومة أبدًا. ولذا قال تعالى: {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ* فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ} [البروج: 17-18]. يسأل الله تعالى رسوله وكل من يتأتى خطابه هذا السؤال الكبير: هل أتاك حديث الجنود؟ أي: العسكر بلغتنا اليوم. فهو يسأل رسوله ليعرف عاقبتهم ونهايتهم بعد أن استكبروا في الأرض, وعرضوا فرعنتهم على الناس, فقال تعالى مبينا حديث هؤلاء العسكر أو الجنود, فقال: (فرعون وثمود) هؤلاء هم العسكر, فرعون ذو الأوتاد, وثمود الذين جابوا الصخر بالواد. وهم الذين قالت فيهم سورة الفجر: {الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ* فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ* فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ* إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ} [الفجر: 11-14]. ولذا قال تعالى عن فرعون وجنوده ممن اتبعوا موسى وقومه {فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ} [طه: 78]. وقال تعالى: {وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ} [القصص: 6]. وقال تعالى: {إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ} أي: آثمين [القصص: 8]. وقال تعالى: {فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ* وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ} [القصص:40/ 41]. وقال تعالى: {وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ} [القصص: 39].
ومن هنا نعلم علم اليقين أنه إذا التقى جند من جنود الله, وآخرون من جنود الطاغوت, كيف تكون النهاية, ولمن تكون العاقبة, ولا شك أن العاقبة للمتقين, {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} [الروم: 47]».