سوق واقف تودع روادها وتخلد إلى بياتها الصيفي.. ومطاعمها تتأهب لاستقبال رمضان
تحقيقات
23 يونيو 2011 , 12:00ص
الدوحة - أحمد الوحيدي
يجر يونيو أذياله، مؤذنا ببداية بيات صيفي طويل في الدوحة، يلفظ يونيو أنفاسه يترك الأطفال عنهم حقائبهم المدرسية، ويرتاح الآباء من رحلة الصباح اليومية لإيداع الأبناء مقاعد الدرس ويبدأ المقيمون رحلة جمع الهدايا للأحبة في الوطن. يخلو أو يكاد سوق الدوحة الأثير «واقف» من رواده، تفرغ طاولات كان يعز العثور على إحداها في شتاء منصرم، وعبارة «محجوزة» ليست على أي من الطاولات الفارغة، تنحسر وتصبح لصق المساحات الصغيرة المتاحة أمام المحال والمطاعم الكبرى، التي تجهد لجذب الزبائن عبر مكيفات عملاقة تنشر الرذاذ لمجابهة غول الرطوبة والحرارة اللتين تلقيان أطنابهما في ممرات السوق العتيدة . تكاد المطاعم أيضا تخلو من زبائنها في الداخل، وإذ تبدأ بتحسس فقدانه للزبائن في هذه الفترة من السنة تشرع في وضع برامجها، استعدادا لرمضان المقبل وما بعده.
لا يعلق أحد مديري المطاعم على هجرة الزبائن، فالأمر معتاد والصيف بحسب عادل السيد موسم الإجازات وعودة «الطيور إلى أوكارها»، ويقول: في الصيف يقل زبائننا كثيرا، فالناس هنا يعودون في الصيف إلى بلادهم، وكثير من المواطنين أيضا يسافرون لقضاء الصيف خارج الدوحة. بيد أنه إلى حين العودة والذي يترافق مع إطلالة شهر رمضان المبارك، يعد السيد وقائمة من عمال وكوادر المطعم خطتهم لرمضان المعظم.
ويضيف أن كثيرا من المقيمين هذا العام فضلوا السفر لقضاء شهر يوليو في بلادهم، ومن ثم العودة لقضاء شهر رمضان هنا، الذي يحل في أوائل أغسطس المقبل، فرغم أجواء الحرارة والرطوبة إلا أن النهار في الخليج وعدد ساعات الصيام أقل منها في مصر أو بلاد الشام والمغرب العربي.
وبحسب السيد فقد أعدت إدارة المطعم برامج للشهر الكريم منها البوفيهات المفتوحة، وكذلك أجواء مريحة للجلسات في الخارج، وهنا تستعين المطاعم والمحال بالمكيفات الضخمة، والمراوح العملاقة في الخارج لمواجهة الحر والرطوبة الشديدين في أغسطس وسبتمبر المقبلين إلى حين تحسن الأمور في أواخر شهور السنة وانفضاض موسم البيات الصيفي عن سوق واقف والدوحة وعودة سريان الحياة بشكلها البهيج والأنيق.
على أبواب محال ومطاعم سوق واقف التي تأخذ أسماءها من كل بقاع جغرافيا العالم من بيروت مروراً بأعظمية بغداد وأصفهان وأسماء تراثية في قطر، تندفع رذاذات المياه الباردة، وتتنافس المطاعم في استيراد التقنيات الحديثة بما يؤمن ويكفي لقضاء ساعات في أجواء تحاكي الطقس المعتدل..
يجلس راشد الكعبي، ورفاقه على طاولة بالقرب من مروحة عملاقة يطلبون أراجيلهم المعتادة ويبدؤون بنفث دخان المعسل الذي تذهب رائحته بعيدا مع موجات الهواء المندفع من المروحة النفاثة، بيد أن راشد ورفاقه الذين لن يذهبوا خارج الدوحة هذا العام يوطنون أنفسهم على البقاء ومصادقة مكانهم الأثير والتكيف مع تقلبات صيف اعتادوا عليه، وفي المدة المتبقية من صيف الدوحة سيبقى الركن الأثير في سوق الدوحة (واقف) مآل رحلاتهم اليومية.
على أن سالم المحمود لا يجد ما يمنعه من ارتياد السوق بشكل يومي إلا نار أخرى إضافة إلى نار الدوحة، وهي نار الأسعار، فساعات معدودة يتناول فيها الحمود شيشته وقليلاً من المرطبات تكلفه زهاء مئة ريال وهو مبلغ يضيق به من هو في حاله، ولذا حسب رأيه «مرة واحدة في الأسبوع كافية».
وفي ذهن المحمود فالمقارنة مع المقاهي الشعبية ظالمة فـ»أنت هنا تدفع ثمن الجلسة والمشاريب والشيشة، وهناك فإن ما تدفعه هو أقل من نصف المبلغ المدفوع هنا»، في ضوء المقارنة لا يغامر أيضا بطلب عشاء فهذا برأيه كفيل بأكل نصف راتبه.
هدايا ومتسوقون
وفيما تبدو مساحات السوق الرئيسية أقل من المعتاد يبدو مشهد الزقاق في «سوق واقف» مكتظا، فهنا متسوقون وطلاب الهدايا، وفي الزقاق الأقل إضاءة من ممرات السوق الرئيسية، يغدو الزقاق «بازارا» مفتوحاً للمتأهبين للسفر، وتحظى سوق الملابس والأنتيكة والمشغولات التراثية والساعات المستنسخة عن الماركات العالمية بإقبال المسافرين أو من هم على أهبته.
يختار علي محمد مجموعة من ساعات مقلدة من ماركات «سيتيزن» و»سيكو فايف» وغيرها، ويقوم بضمها إلى قائمة هداياه من ملابس للأطفال من محال مجاور، وينقد البائع ثمن ساعاته متوجها إلى محال أخرى. وتبدو لحظة ما قبل المغادرة بالنسبة لعلي أصعب اللحظات يشكو سوء حاله هنا، لكن المحبين هناك لا يرحمونه «فاليد الفارغة ملعونة».
ورغم تواضع هداياه وإدراكه أن رضا الناس غاية لا تدرك إلا أنه يرضى نسبيا بما اشتراه، وفي ضوء شكوى علي تقابله شكوى محمد شفير (بائع هندي) من تواضع مبيعاته هذا العام، يقف أمام محله في الزقاق ويعرض ملابس مستوردة من الصين وبلدان آسيوية أخرى علها تجد من يشتريها، ويدرك شفير أن هذه الأيام هي فرصته الأخيرة في تسويق بضاعته.
ويقول بعربية ركيكة إن الناس هنا في هذه الأيام يأتون لشراء هدايا من محله المتواضع، ورغم انخفاض أسعاره إذا ما قيست بأسعار المولات فإنها بالكاد تغطي ثمن البضاعة وأجور العاملين عليها.
في الزقاق الضيق أيضا ينشط الحمالون يدفعون عرباتهم الصغيرة بحثا عن زبائن تضيق البضائع المشتراة والهدايا برسم الوصول إلى الوطن بأيديهم، فيدفعونها إلى الحمالين لإيصالها إلى حيث مواقف سياراتهم التي لم يعودوا يشكون من صعوبة الحصول على «باركينج» لها.
تقول إحدى السيدات هذا الوقت مريح للحصول على موقف سيارة في وقت كنا نعاني فيه الأمرّين قبل هذا الوقت في الحصول على موقف في «الباركينج» بسوق واقف أما الآن وقد خلت السوق إلا من بعض المتسوقين وطالبي الاسترخاء فإن موقف السيارة خاصتها مؤمن.
تحف وتوابل
في السوق هدايا كثيرة، تحف وأنتيكة وملابس وتراثيات أيضا لكن أم محمد تجد ضالتها في ركن بعيد وقصي من السوق هناك حيث تفوح رائحة القرفة والزنجبيل المطحون، إنه سوق البهارات «البزار» أو التوابل، تعرف أم محمد طريقها إلى هناك جيدا، وبعيني خبيرة تختار بهارات للسمك وأخرى للمقلوبة وثالثة خاصة بالكعك والمعمول الذي تنتظره جاراتها على أحر من الجمر، فبعد رمضان يبدأ العيد الذي لا تكتمل طقوسه وزينته إلا بكعك العيد ومعموله.
تختار أم محمد من كل صنف أجوده، ولا تطيل الفصال مع الباعة في السوق فهم يعرفونها جيدا، ولذا لا مزيد من الجدل الطويل حول التوابل وأسعارها، ولكن أم محمد إذ تتفقد توابلها وقائمة المكسرات التي حصلت عليها لا تنسى كيلوات من الحناء الفاخرة تحملها معها، فالصيف بحسبها هو موسم الأعراس أيضا والحناء طقسها البهيج، وله لياليه الخاصة أيضا التي تدعى باسمه «ليلة الحنة» الذي يسبق الزفة وليلة الدخلة أيضا.
وفيما تمثل التوابل والحناء وطقوسها اهتمامات أم محمد يبدو «مارك لاغات» وصديقته الفلبينية مأخوذين بالتحف التراثية التي تتناثر على طاولات ومصفوفة بعناية في المحل الذي يجلس على أبوابه دحام العبدالله، يختار الصديقان هدايا صغيرة ويمضون بها فرحين، فثقافتهما عن الهدايا مختلفة عن التي لدى مقيمين عرب هنا، لديهما الهدية تذكار يحمله المغترب إلى أصدقائه عن البلد المقيم فيه يرمز إليه ويذكر بثقافته أما العرب فلا وزن للهدية إن لم تكن ثقيلة وغالية.
تودع ساحات سوق واقف من مضى في رحلته القصيرة إلى دياره، وتتأهب لشهرين قاسيين سبتمبر وأغسطس اللهاب، وفي الأثناء يجدد ممراته التي ستزدحم بالمارة، ويحتفي بالعائدين إليه وقد اشتاقوا مجددا إلى جلساتهم الطويلة في ممراته وشوارعه. هما زيارتان لمحمد البادي من (عمان) إلى السوق العتيدة ، لا يعرف المرة المقبلة التي سيعود فيها، وما لا يعلمه البادي أيضاً أي شكل للسوق سيكون، فهنا عجلة التطوير والتحديث لا تتوقف، والقائمون على السوق يجتهدون في مدها بعيدا إلى وسط المدينة التي أريد في التخطيط لها أن تستلهم روح السوق التي تجري في امتدادات البلد العمرانية والهندسية. يطيل حسين سالم وصديقه مصطفى ليلتهما الأخيرة قبل مغادرة الدوحة والعودة إلى الأردن، ويؤمل الصديقان، عودة قريبة بعد الإجازة، مع نهاية شهر رمضان وموسم الأعياد، ويعربان عن أمنيتهما في العودة إلى واقف مفضلين أن تكون السهرات خاصتهما في فصل الشتاء لكن سالم لا ينسى أن يعرج على بعض ذكرياته هذا العام عن السوق وعما شهدته إقامتها في الدوحة، فهذا العام كان عام احتفالات بامتياز، هنا أطلق سالم ومصطفى صرختهما ابتهاجا بفوز قطر بتنظيم مونديال 2022، وهنا أيضاً احتفلا مع قادمين من الأردن، بمناسبة المشاركة في تصفيات كأس آسيا.
لم يكن الشتاء مميزا بحسب سالم بل كان الربيع أيضا الذي شهد فيه حفلات المطربين العرب ضمن مهرجان ربيع سوق واقف.
يغادر سالم الدوحة على أمل بليال جميلة وحميمة يقضيها في صخب سوق واقف وقد خرج الأخير من بياته الصيفي.