سورة الجن تحذر من اللجوء إلى السَّحرة والمشعوذين
الصفحات المتخصصة
20 نوفمبر 2015 , 07:34ص
يوسف القرضاوي
كان من أكبر أمنياتي أن أتوجه لكتابة تفسير مختصر للقرآن الكريم، وعزمت على ذلك وأعلنت هذا الأمل المتجدد، ودعوت الله أن يحققه لي، ليكون حاشية في مصحف قطر، بخط الخطاط المتقن عبيدة البنكي السوري، وبدأت بتفسير سورة الفاتحة وسورة النبأ، لكني وجدت أن ما يجول في خاطري من معاني القرآن يأبى أن يتقيد بحاشية مطبوعة على المصحف، فخرجت عن هذه الخطة إلى الكتابة المسترسلة، على طريقتي في التأليف التي اعتدتها منذ كتابي الأول: الحلال والحرام في الإسلام.
ووفق الله فأتممت تفسير جزء عم، وهأنذا قد أتم الله عليّ تفسير جزء تبارك، وأسأل الله أن يبارك في الوقت والجهد لأتم ما أؤمله من تفسير كتابه. وهذا جزء تبارك بين أيديكم، وقد قدمت -على طريقتي في تفسير جزء عم- لكل سورة بذكر أهم مقاصدها، ثم أفسر سائرها، جزءًا جزءًا، وآية آية، جاعلًا اهتمامي الأول أن أفسر القرآن بالقرآن، ثم بالسنة الصحيحة، جامعا بين العقل والنقل، والرواية والدراية، مستعينا أولا بالتأمل، ثم بقراءة التفاسير المهمة والاقتباس منها، ولن يعدم القارئ فيه فائدة، وسيجد فيه الخطيب والمحاضر والمدرس والداعية زادا نافعا.
ما جاء في سورة الأحقاف:
وقد ذُكرَ الجن قبل هذه السورة في سورة الأحقاف، في قوله تعالى: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ * قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف:29-30]. إلى آخر ما ذكره الله في سورة الأحقاف.
وكثير من المُفسِّرين يرَوْن أنَّ ما في سورة الجنِّ تفسير لما جاء في سورة الأحقاف، وبعضهم يقول: إنهما مرَّتان، وأنَّ الجنَّ الذين ذكروا في الأحقاف غير الذين ذكروا هنا في سورة الجنّ، وليس عندنا دليل يقطع بهذا أو بذاك.
وبعضهم جعل هؤلاء الذين ذُكروا في سورة الأحقاف من يهود الجن، الذين آمنوا بسيدنا موسى عليه السلام، فمن المعلوم أن الرسل أرسلوا إلى الجن- كما نصَّ القرآن في أكثر من موضع- كما أن القرآن ذكر على ألسنتهم أنهم قالوا: {إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأحقاف:30]. وهم يقصدون محمدًا صلى الله عليه وسلم وكتابه، فلم يقولوا: أنزل من بعد عيسى، وإنما قالوا: أنزل من بعد موسى؛ لأن توراة موسى هي الأصل المحتوِي على الشرائع والأحكام.
ظنُّ الجن عدم كذب الإنس والجن على الله:
وقال تعالى: {وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا}.
هذا كلام النَّفَر المؤمنين من الجن. والمعنى: أنَّا كنَّا نظنَّ قبلَ إيمانِنا: أن الأقوال المنتشِرة بين الناس، التي كنا نسمعها من غواة الإنس والجن، حول الآلهة وما يتعلق بها: حقٌّ وليست بكذب؛ لأنهم ينسبونها إلى الله تعالى، وكنا نظن بهم أنهم لا يكذبون على الله تعالى- ولا يرجِّحون ذلك- ثم تبيَّن لنا خطأ ذلك الظن، فهو ليس مبنيًّا على علم وبينة، ولكنه مؤسَّس على جهل بيِّن، فالكذب على الله قديم في الجن والإنس.
عَوْذُ رجال من الإنس برجال من الجن:
ثم قال تعالى: {وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا}.
معنى هذا: أن مؤمني الجن قالوا: كنا نرى أن لنا فضلًا على الإنس؛ لأنهم كانوا يعوذون بنا، أي: إذا نزلوا واديًا أو مكانًا موحشًا من البَرَارِيِّ وغيرها- كما كان عادة العرب في جاهليتها- يعوذون بعظيم ذلك المكان من الجانِّ، أن يصيبهم بشيء يسوؤهم، كما كان أحدهم يدخل بلاد أعدائه في جوار رجل كبير وذِمامه وخِفارته، فلمَّا رأت الجنُّ أن الإنس يعوذون بهم من خوفهم منهم؛ (زادوهم رهقًا) أي: خوفًا وإرهابًا وذُعْرًا، حتى يبقوا أشدَّ منهم مخافة، وأكثر تعوُّذًا بهم. قال قتادة: {فَزَادُوهُمْ رَهَقًا} أي: إثمًا، وازدادت الجنُّ عليهم بذلك جراءة.
وقال السُّدِّيُّ: كان الرجل يخرج بأهله، فيأتي الأرض، فينزلها، فيقول: أعوذ بسيِّدِ هذا الوادي من الجن: أن أُضَرَّ أنا فيه، أو مالي، أو ولدي، أو ماشِيَتي. قال: فإذا عاذ بهم من دون الله، رَهَقَتْهم الجنُّ الأذى عندَ ذلك.
وعن قتادة: أن الجن لذلك كانت تحتقر بني آدم وتزْدريهم، لما ترى من جهلهم، فكانوا يزيدونهم مخافة، ويتعرضون للتخيُّل لهم بمنتهى طاقاتهم، ويغوونهم في إرادتهم، لمَّا رأوا رِقَّة أحلامِهم، فهذا هو الرهق الذي زادته الجن ببني آدم.
وفي الآية تحذير من اللجوء إلى السَّحرة والمشعوذين وأمثالهم، والمنع من الرُّقى التي لا يقرُّها الشرع.
ظنُّ الجنِّ كما ظنَّ الإنس بعدم البعث:
ثم قال تعالى: {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا}.
وقوله تعالى: {وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا} يريد بني آدم الكفار {كَمَا ظَنَنْتُمْ} مخاطبة لقومهم من الجن.
أو أنَّ كفار الجنِّ ظنُّوا ظنًّا توهميًّا ضعيفًا كما ظننتم- يا معشر الكفار من الإنس- أن لن يبعث الله بعد الموت أحدًا، فلا حساب يومَ الدين، ولا فصل قضاء، ولا جزاء.
وقولهم: {أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا} يحتمل معنيين:
أحدهما: بعث الحشر من القبور، كما قال تعالى: {وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ} [الحج:7].
والآخر: بَعْثُ النبيِّ رسولًا إلى الناس، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ} [النحل:36].
صيانة السماء من استراق السمع من الجنِّ:
ثم قال تعالى: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا}.
يخبرنا تعالى على لسان مؤمني الجن، حين بعث الله تعالى رسوله محمدًا، وأنزل عليه القرآنَ، أَنْ كان من حفظه له، أنَّ السماء الدنيا التي تحيط بنا وتظلِّلُنا: مُلِئتْ حرسًا شديدًا، وحُفظت من سائر أرجائها، وطُردت الشياطين عن مقاعدها التي كانت تقعد فيها قبل ذلك؛ لئلَّا يسترِقُوا شيئًا من القرآن- من الملائكة الذين كانوا ينقلونه- ليلقُوه على ألسنةِ الكَهَنَة، فيلتبس الأمر ويختلط، ولا يُدْرَى من الصَّادق ومن الدجَّال. وهذا من لطفِ الله بخلقه، ورحمتِه بعباده، وحفظه لكتابه العزيز، ولهذا قال هذا النَّفر من الجنِّ: {وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا} أي: مَنْ يروم أن يَسْتَرِقَ السمعَ اليوم، يجدْ له شهابًا مُرْصَدًا له، لا يَتَخطَّاه ولا يتَعدَّاه، بل يمحقُه ويُهلكُه.
وفي هذه الآية والتي قبلها إبطال مزاعم السَّحرة والمشعوذين، الذين يدَّعون علم الغيب، ويغرِّرون بضَعَفة العقول؛ بافتراءاتهم وأقوالهم الباطلة.
عدم دراية الجنّ عمَّا يحدث من حراسة السماء من استراق السمع: أهو خير أم شر:
وقال تعالى: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا}.
أي: أنَّا لا ندري نحن هل المقصود من المنع من الاستراق والرمي بالشُّهُب هو شرٌّ أُريد بأهل الأرض، أم أُريد بهم صلاحٌ وخير يمنع عنهم به كهانة الكهَّان، وما تُوحي إليهم به الشياطين من بعض أخبار السماء؟
لكن دَرَيْنا، بعد أن استمعنا القرآن فآمنّا به، وذهب عنا التَّحيُّر، وعلمنا أنَّ الله عزَّ وجلّ قد أراد بأهل الأرض أمرًا رشدًا.
وقولهم هذا: {وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا} من حُسن أدبهم في التعبير، حيث أسندوا الشرَّ إلى غير فاعل، وأسندوا إرادة الرُّشد والخير إلى الله تعالى.
وقد ورد في السنة الصحيحة في دعاء رسول الله صلة الله عليه وسلم: «والشرُّ ليس إليك».
وقد كانت الكواكب يُرمى بها قبل ذلك، ولكن ليس كثيرًا؛ بل في الأحيان بعدَ الأحيان، كما في حديث ابن عباس، من طريق الزهري، عن علي بن الحسين، عنه أنه قال: بينما نحن جلوسٌ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذا رُمِي بنجمٍ فاستنار، فقال: «ما كنتم تقولون في هذا؟». فقلنا: كُنَّا نقول: يولَد عظيم، يموت عظيم.
قال معمر: قلتُ للزهري: أكان يرمى بها في الجاهلية؟ قال: نعم، ولكن غلظت حين بعث النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن عباس: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فإنها لا يُرمَى بها لموت أحد ولا لحياته، ولكن ربنا، تبارك وتعالى إذا قضى أمرًا، سبَّح حَمَلة العرش، ثم سبَّح أهل السماء الذين يلونهم، حتى يبلغ التَّسبيح هذه السماء الدنيا، ثم يستخبرُ أهلُ السماء الذين يلونَ حملةَ العرش، فيقول الذين يلون حملة العرش لحمَلة العرش: ماذا قال ربُّكم؟ فيخبرونهم، ويخبر أهلُ كل سماء سماء؛ حتى ينتهي الخبر إلى هذه السماء، وتخطف الجن السمع، فيرمون، فما جاؤوا به على وجهه فهو حق، ولكنهم يَقْرِفون فيه ويزيدون».
وهذا هو السبب الذي حملهم على تطلُّب السبب في ذلك، فأخذوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها، فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بأصحابه في الصلاة، فعرفوا أن هذا هو الذي حُفِظَتْ من أجله السماء، فآمن من آمَنَ منهم، وتمرَّد في طغيانه من بَقِي.
يتبع الجمعة القادمة إن شاء الله.