

                            طوت الجزائر، أمس، صفحة الرئيس السابق عبد العزيز بوتفليقة، الذي توفي عن عمر يناهز 84 عاماً، في منزله، حيث يقيم في منطقة الأبيار في أعالي العاصمة الجزائرية، بعد أقل من سنتين على مغادرته السلطة في أبريل 2019، إثر حراك شعبي أطاحه.
وتسلّم الرئيس الراحل دفة الحكم في أبريل 1999، وحكم البلاد لأربع فترات رئاسية، لكنه اضطر إلى مغادرة الحكم بضغط حراك شعبي عارم اندلع في 22 فبراير 2019، مباشرة بعد إعلانه في التاسع من الشهر نفسه، عزمه على الترشّح لولاية رئاسية خامسة في الانتخابات التي كانت ستُجرى في أبريل من العام نفسه، ما اضطره تحت ضغط إضافي من قائد الجيش الراحل الفريق أحمد قايد صالح، إلى تقديم استقالته في الثاني من أبريل 2019.
لجوء في «وجدة» المغربية
ولد الرئيس الراحل، في الثاني من مارس 1937، لعائلة جزائرية كانت تقيم لاجئة في مدينة وجدة المغربية، القريبة من الحدود مع الجزائر، وتنحدر أسرته من منطقة تلمسان غربيّ الجزائر. 
تلقى بوتفليقة تعليمه هناك في مدرسة ابتدائية في وسط مدينة وجدة، وأكمل تعليمه الثانوي في المدينة نفسها، ولأن مدينة وجدة كانت تمثل قاعدة خلفية للثورة الجزائرية، وتتمركز فيها قياداتها، وجد بوتفليقة سبيلاً للالتحاق بصفوف الثورة، واتخذ من «عبد القادر» اسماً حركياً له في عام 1957.
أهّله تعليمه لتقوم هيئة قيادة الأركان التي كانت تتمركز في منطقة الحدود المغربية بتعيينه مراقباً عاماً ثم ضابطاً منتدباً، وفي سنة 1960 أرسل قائداً إلى الحدود الجنوبية، وخلال وجوده في وجدة يضعه القدر في طريق هواري بومدين، الذي سيصبح لاحقاً رئيساً لأركان جيش التحرير، وكان له دور في تعيين بوتفليقة عضواً في المجلس التأسيسي (أول برلمان)، ثم وزيراً للشباب والرياضة والسياحة، وهو في الـ25 من عمره، ضمن أول حكومة للجزائر المستقلة، قبل أن يعيَّن وزيراً للشؤون الخارجية، وهو المنصب الذي ظل يتقلّده حتى عام 1979.
بوتفليقة وحركات التحرر
خلال فترة شغله منصب وزير الخارجية، سيسهم بوتفليقة مستفيداً من الثقل الثوري للجزائر، في دعم القضية الفلسطينية وحركات التحرر في أفريقيا والعالم، وخاصة قضايا الأبارتايد، وفي تشيلي والأرجنتين، وفي عام 1974 ترأس بوتفليقة الجمعية العامة للأمم المتحدة، حيث طرد الوفد الإسرائيلي المشارك، وأتاح الفرصة للزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات لإلقاء خطابه الشهير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة التي انتقلت إلى جنيف، وأدى بوتفليقة دوراً بارزاً في ديسمبر 1975 في إنهاء معضلة عملية اختطاف مجموعة كارلوس، للوزراء وموظفي «أوبك» من مقر «أوبك» في فيينا، وكان بينهم وزير الطاقة الجزائري عبد السلام بلعيد، ووزير النفط السعودي أحمد زكي يماني، حيث حُرِّروا في الجزائر.
في 27 ديسمبر 1978 توفي الرئيس بومدين، وتولى بوتفليقة تأبينه في الجنازة الرسمية، وكان يطمح إلى خلافته في الرئاسة، لكن قيادة الجيش والمخابرات اختارت العقيد الشاذلي بن جديد رئيساً للبلاد بداية عام 1979، ليبدأ مع تغير هرم الحكم في الجزائر، استبعاد رجال بومدين من السلطة، وكان بينهم بوتفليقة الذي أُقيل من منصبه، وحولت السلطة السياسية ملفه إلى مجلس المحاسبة الذي نشر قراراً رسمياً في صحيفة «المجاهد» المتحدثة باسم الحكومة في التاسع من أغسطس 1983، يتهم بوتفليقة بالتورط في اختلاس أموال عامة، قيل حينها إنها كانت مودعة في «صندوق دعم حركات التحرر» التي كانت تدعمها الجزائر بسخاء بين عامي 1965 و1978، وبلغت ملايين الدولارات.
أرغمت هذه الظروف بوتفليقة على مغادرة البلاد، حيث قضى سنوات بين جنيف ودمشق ودول الخليج، قبل أن يعود في يناير 1987 إلى الجزائر، بعدما أقرّ الرئيس السابق الشاذلي بن جديد عفواً عنه عام 1986، وكان أول نشاط سياسي لبوتفليقة، توقيعه برفقة 18 شخصية سياسية، بياناً خلال أحداث الخامس من أكتوبر 1988، قبل أن يُدعى للمرة الأولى منذ استبعاده إلى المؤتمر العام لحزب جبهة التحرير عام 1989، وانتُخب عضواً في اللجنة المركزية للحزب.
انتخابات رئاسية مثيرة للجدل
في الثالث من مايو 1999 تسلّم الرئيس بوتفليقة سدة الحكم، بعد فوزه في انتخابات رئاسية مثيرة للجدل، إذ كان منافسوه الستة قد أعلنوا انسحابهم يوم الاقتراع من السباق الانتخابي، ليبدأ بوتفليقة عهدته الرئاسية الأولى لاستكمال الإطار القانوني لاتفاق كانت قد عقدته قيادة المخابرات مع مسلحي الجبهة الإسلامية للإنقاذ، لوقف العمل المسلح والنزول من الجبال مقابل عفو عنهم، وأطلق قانون الوئام المدني بهدف «تحقيق السلم وإطفاء نار الفتنة في البلاد»، بعد عشر سنوات من الأزمة الأمنية الدامية، والمعروفة بـ «العشرية السوداء».
نجح بوتفليقة خلال ولاياته الرئاسية الأربع في الحد من نفوذ المؤسسة العسكرية والمخابرات، وتمكن من إبعاد عدد من جنرالات الجيش. ومع كل عهدة رئاسية كانت رغبة السلطة تكبر، وفي عام 2008 وجد بوتفليقة نفسه أمام مشكلة دستورية تمنعه من الترشح لولاية رئاسية ثالثة في الانتخابات التي ستجري في أبريل 2009، لكنه وجد الحل في عرض بتعديل جزئي ومحدود للدستور في نوفمبر 2008، يتيح له الترشح لولاية رئاسية ثالثة، فاز بها مجدداً، على الرغم من اعتراض عدد من القوى السياسية على تعديل الدستور. وفي بداية عام 2011، كانت دول عربية عديدة تعيش ثورات الربيع العربي، فبادر بوتفليقة إلى احتواء احتجاجات انطلقت في عدة مدن جزائرية بسبب ارتفاع أسعار المواد الغذائية، بإعلان تعهدات بإصلاحات سياسية وتعديل دستوري محدود.


آخر رسائل بوتفليقة: أعتذر.. وألتمس الصفح
نشرت «وكالة الأنباء الجزائرية» في اليوم التالي لاستقالة الرئيس الجزائري الراحل عبد العزيز بوتفليقة إثر الحراك الشعبي في البلاد، قبل أكثر من عامين، آخر رسالة وجهها إلى الشعب، والتي ضمنها طلب الاعتذار والتماس الصفح من الجزائريين، كما استعرض مسيرته في خدمة البلاد، وتطلعاته التي لم يستطع تحقيقها بسبب معوقات متعددة.
ونُشرت هذه الرسالة في الثاني من أبريل 2019، بعد انتفاضة الحراك الشعبي الذي طالب برحيله عن الحكم ورفض ترشحه لولاية رئاسية خامسة في الانتخابات التي كانت مقررة في 16 أبريل من نفس السنة.
ومن ضمن ما جاء في نص الرسالة:
أخواتي وإخواني الأعزاء:
وأنا أغادر سدة الـمسؤولية وجب عليَّ ألا أنهي مساري الرئاسي من دون أن أوافيكم بكتابي الأخير هذا، وغايتي منه ألا أبرح الـمشهد السياسي الوطني على تناء بيننا يحرمني من التماس الصفح ممن قَصَّرت في حقهم من أبناء وطني وبناته من حيث لا أدري، رغم بالغ حرصي على أن أكون خادما لكل الجزائريين والجزائريات بلا تمييز أو استثناء.
الآن وقد أنهيت عهدتي الرابعة أغادر سدة الـمسؤولية وأنا أستحضر ما تعاونا عليه بإخلاص وتفانٍ، فأضفنا لبنات إلى صرح وطننا وحققنا ما جعلنا نبلغ بعض ما كنا نتوق إليه من عزة وكرامة بفضل كل من ساعدني من بناته وأبنائه البررة.
أطلب منكم وأنا بشر غير منزه عن الخطأ الـمسامحة والـمعذرة والصفح عن كل تقصير ارتكبته في حقكم بكلـمة أو بفعل. وأطلب منكم أن تظلوا مُــوَفِّيـنَ الاحتفاء والتبجيل لـمن قضوا نحبهم ولـمن ينتظروني من صناع معجزة تحريرنا الوطــــني، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا وأن تكونوا في مستوى مسؤولية صون أمانة شهدائنا الأبرار.
 نص الاستقالة
أما نص الاستقالة التي بعثها إلى المجلس الدستوري، فمن بين ما تضمنته ما يلي: 
دولة رئيس المجلس الدستوري
يشرفني أن أنهي رسمياً إلى علمكم أنني قررت إنهاء عهدتي بصفتي رئيساً للجمهورية، وذلك اعتباراً من تاريخ اليوم، الثلاثاء 26 رجب 1440 هجري الموافق 2 أبريل 2019.
إن قصدي من اتخاذي هذا القرار إيماناً واحتساباً هو الإسهام في تهدئة نفوس مواطني وعقولهم، لكي يتأتى لهم الانتقال جماعيا بالجزائر إلى المستقبل الأفضل الذي يطمحون إليه طموحا مشروعا.
رحلة طويلة مع المرض
في 17 أبريل 2013، أصيب الرئيس بوتفليقة بوعكة صحية استدعت نقله على جناح السرعة إلى مستشفى «فال دوغراس» العسكري في ضواحي باريس، حيث مكث 81 يوماً حتى يوليو 2013، لكنه ترشح رغم ذلك لولاية رئاسية في أبريل 2014، وفاز بها من دون أن يقوم بتجمّع انتخابي واحد، غير أن ذلك كان مؤشراً على أن الرئيس دخل مرحلة تنقص فيها ممارسته الفعلية لصلاحياته السياسية، فيما كان نفوذ مجموعات سياسية بقيادة شقيقه السعيد بوتفليقة وكارتل مالي يجمع عدداً من رجال المال والأعمال، يتوسع ويتمدد في البلاد ويهيمن على مقدراتها. 
وفي أبريل 2016، نُقل بوتفليقة مجدداً إلى مستشفى في سويسرا لإجراء فحوص طبية وصفتها الرئاسة بالدورية، ثم نقل في نوفمبر من العام نفسه إلى عيادة في غرونوبل لإجراء فحص طبي.
 قبل ذلك كانت صورة ظهر فيها بوتفليقة مع رئيس الحكومة الفرنسية حينها مانويل فالس في أبريل 2016، وهو شارد الذهن وفي وضع صحي متردٍّ، قد صدمت الرأي العام في الداخل والخارج، لكن بوتفليقة ظل متمسكاً بالحكم على الرغم من بروز مشكلات معقدة في البلاد.
قبل أشهر من وفاته، كان اسم بوتفليقة يتردد في محاكمات الوزراء ورؤساء الحكومات، حيث كان عدد منهم يحمّل وزر القرارات وقضايا الفساد لبوتفليقة. وبينما كانت هيئات الدفاع عنهم تطالب باستدعاء بوتفليقة للمساءلة أو بصفة شاهد على الأقل، كان القضاء يرفض ذلك ويتجاوز الأمر نهائياً، وبدا أن هناك خطاً أحمر من السلطة السياسية لعدم إقحام بوتفليقة في أي معركة قضائية، سواء باعتبار القانون الذي لا يجيز لأية محكمة محاكمته، أو باعتبار ظرفه الصحي، أو لاعتبارات التفاهمات السياسية التي جرت مع الجيش عشية استقالته من الرئاسة، بشأن ضمان خروجه الآمن من السلطة.