الولادة السياسية في ليبيا عسيرة وتحتاج لبديل ثقافي وسياسي
محليات
18 يونيو 2011 , 12:00ص
الدوحة – العرب
أصدر المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات «تقييم حالة» عن (مشاكل الولادة السياسية العسيرة لليبيا الجديدة) تناول: تاريخ الدولة في ليبيا، وظروف دولة الاستقلال، والانقلاب العسكري سنة 1969 وظهور معمر القذافي على مسرح الأحداث، والزعامة والجماهير واللجان الثورية، ونهاية الدولة الزعامية، وحاول استشراف الآفاق المستقبلية.
كتب التقييم الدكتور المولودي الأحمر الخبير في الشؤون الليبية، الذي استهل تقييم الحالة بالإشارة إلى أن العالم اليوم يتابع باهتمام بالغ وبكثير من الدهشة، مع عدم الفهم أحياناً، تطور الأحداث في ليبيا.
وأشار إلى أن أهمية الأسئلة التي تدور الآن في أذهان أغلب المراقبين والمحللين هي التالية: لماذا تدحرجت المعارضة الليبية من التظاهر السلمي ضد النظام السياسي الاستبدادي لمعمر القذافي، نحو الانخراط في حرب ضروس ضد رموز هذا النظام أفضت بسرعة إلى تدويل قضيتها؟ وكيف استطاع النظام الليبي أن يصمد كل هذا الوقت أمام انتفاضة شعبية عارمة شملت في بدايتها حتى قلب العاصمة طرابلس؟
ثلاثة عوامل رئيسة
وشدد الكاتب على أنه من المهم الانتباه إلى أن مشاكل الفهم المتعلقة بخصائص الصراع على السلطة ومعادلاته في هذا البلد ازدادت في الحقيقة غموضاً بسبب وجود ثلاثة عوامل رئيسة لم تكن موجودة في غيرها من الثورات العربية: *العامل الأول هو الحضور الدولي اللافت لليبيا خلال الـ40 سنة الأخيرة على الساحة الإقليمية، وأحيانا الدولية، كقوة بترولية جاذبة للعمالة ارتبطت بها مصالح العديد من الدول. وقد غطت هذه الصورة الاقتصادية القوية للبلاد على الكثير من مشاكل المجتمع الليبي الداخلية، واختزلت علاقة ليبيا المضطربة مع العالم الخارجي في السلوك السياسي المميز والاستفزازي لمعمر القذافي على مسرح الأحداث الدولية. *العامل الثاني هو شخصية القذافي السياسية في حد ذاتها. وهذه الشخصية لم تنحتها فقط أصولها البدوية وتاريخ ليبيا السياسي، إنما أيضاً قيمة الموارد المالية التي حظي بها الزعيم الصاعد إلى قمة الدولة في طريقه وعلى ذمته. فاعتماداً على هذه الثروة وعلى إيديولوجية شعبوية فجة وبدائية، قدم القذافي ليبيا للعالم على أنها بلد ليس له من المشاكل إلا تلك المتعلقة بطمع القوى الخارجية الكبرى في ثروته. ومن ثم غطت شخصية القذافي، الذي استنفذ الكثير من الجهد كي يبقى محط أنظار العالم، على كل ما يتعلق بالشأن الاجتماعي-السياسي الداخلي لبلده بكل تعقيداته.
*العامل الثالث هو أن المحللين الذين هرعوا لتفحص الواقع الليبي في محاولة منهم لفهم الأحداث الجارية، اصطدموا بشح المعلومات المتعلقة بمكونات هذا المجتمع الداخلية، تلك التي يبني عليها اليوم الفاعلون السياسيون أهدافهم وسلوكهم ومواقفهم واستراتيجيات عملهم.
تاريخ الدولة في ليبيا
تحدث الكاتب عن تاريخ الدولة في ليبيا من خلال العودة إلى تاريخ الظاهرة السياسية في ليبيا، بما في ذلك تأسيس الدولة المستقلة سنة 1951، مع الوقوف عند التفاصيل الأنثروبولوجية- التاريخية لتشكل الفعل السياسي في هذا المجتمع وآلياته، وظاهرة الزعامة تحديداً من بينها، ثم وضع الانقلاب العسكري الذي جاء بالقذافي إلى السلطة
قال: لكي نفهم هذه المسائل، ونتبين الخيوط التي تربط بين عناصرها، علينا العودة قليلاً إلى تاريخ الظاهرة السياسية في ليبيا، بما في ذلك تأسيس الدولة المستقلة سنة 1951، مع الوقوف عند التفاصيل الأنثروبولوجية- التاريخية لتشكل الفعل السياسي في هذا المجتمع وآلياته، وظاهرة الزعامة تحديداً من بينها، ثم وضع الانقلاب العسكري الذي جاء بالقذافي إلى السلطة في سياق التطور الداخلي والخارجي الذي عرفته ليبيا من منظور الثقافة السياسية «الزعامية» المشار إليها، وأخيراً الربط بين جميع هذه العناصر وما يجري الآن على الساحة الليبية بتفاصيلها الاجتماعية والسياسية.
خصائص الظاهرة السياسية
وأوضح الكاتب أن الظاهرة السياسية في التاريخ الليبي الحديث، وبالتحديد منذ قدوم العثمانيين إلى هذه البلاد في منتصف القرن الـ16، تميزت بثلاث خصائص دقيقة:
-استقرار السلطة نهائيا بين أيدي قوى حضرية ذات أصول خارجية متمركزة في طرابلس.
-ضعف سيطرة الدولة حتى النصف الثاني من القرن الـ19 الميلادي على مجريات الحياة السياسية في جزء كبير مما أصبح يعرف اليوم بليبيا (لم يرفع العلم العثماني على مدينة الكفرة في أقصى الجنوب الشرقي للبلاد إلا سنة 1912)
-استمرار المجتمعات المحلية في معظم مناطق البلاد -نتيجة الواقع المشار إليه في العنصر السابق- في إنتاج نخبها السياسية بمعزل عن تدخل الدولة المركزية في هذا المجال حتى الربع الأخير من القرن الـ19.
دولة الاستقلال
تعرض الكاتب للوضع الليبي
عند الاستقلال قائلا:
حينما وصل القذافي إلى الحكم لم تكن هناك مؤسسات مدنية مستقلة يمكن في إطارها تنظيم الفعل السياسي بشكل حديث
وتساءل: ماذا حدث تاريخيا لهذه البنية كي تنشأ في ليبيا في منتصف القرن الماضي دولة مستقلة على رأسها ملك وينظم عملها دستور ولو بطريقة شكلية؟ وما علاقة ذلك بما يحدث اليوم في هذا البلد؟
وفي الإجابة عن التساؤلات التي طرحها ذكر أن أهم ما حدث في ليبيا سياسيا خلال النصف الثاني من القرن الـ19 والثلث الأول من القرن الـ20 هو تغيير شروط الفعل السياسي وأدواته، بطريقة قضت على تنوع واستقلالية الديناميكيات المحلية التقليدية لصناعة الزعامة، وجعلت هذه الأخيرة حكراً على من يمسك بالدولة المركزية. وقد كان هذا شأن النظام الملكي الليبي الذي نشأ مع الدولة المستقلة، وشأن النظام الجماهيري الذي أصبح معمر القذافي زعيمه الأوحد منذ سنة 1969.
وصول القذافي للحكم
وعرض الكاتب لما حدث في الانقلاب العسكري سنة 1969 وظهور معمر القذافي على مسرح الأحداث.
قال: لم تنشأ زعامة معمر القذافي بعدما استولى على السلطة، بل العكس هو ما مكنه من ذلك، لكن أجهزة الدولة الحديثة، ومواردها غير المسبوقة، قد ساعدته على الاحتفاظ بتلك الزعامة وجعلها في صلب مؤسسات الدولة التي أعاد بناءها على المقاس. وأشار إلى أنه خلال شهر مايو من سنة 1969 وصل جعفر نميري إلى الحكم في السودان عن طريق انقلاب عسكري. وفهم الرئيس التونسي الحبيب بورقيبة أن هذا الحدث قد تكون له ارتدادات في الجوار، فطلب من سفير تونس في طرابلس آنذاك الطيب السحباني الاتصال على عجل بالملك إدريس السنوسي وإبلاغه الرسالة التالية: «بلادكم الشاسعة التي حباها الله بثروات كبيرة تشكو من فراغات ثلاثة: فراغ ديمغرافي وفراغ ثقافي وفراغ سياسي. الفراغ الديمغرافي لا يمكنكم سده في المدى المنظور، والفراغ الثقافي يمكنكم التعامل معه ولكن ذلك يتطلب وقتاً طويلاً نسبياً وجهداً كبيراً، أما الفراغ السياسي فيمكنكم معالجته من خلال التصالح مع النقابة والكف عن التضييق على المناضلين النقابيين عندكم، ومنهم سالم شيدة، لأن النقابات وجدت كي يقع التفاهم معها، وتكوين حزام من المؤسسات الوسيطة بينكم وبين الشعب، وذلك هو ما سيحمي الثروة التي أعطاها لك الله»[1]. وبعد ذلك بأربعة أشهر فقط حدث الانقلاب الذي أطاح بالملك السنوسي في ليبيا. وأشار إلى أنه حينما وصل القذافي إلى الحكم لم تكن هناك مؤسسات مدنية مستقلة يمكن في إطارها تنظيم الفعل السياسي بشكل حديث، ولم يكن الملك يختار وزراءه من بين أعضاء أحزاب نالت ثقة المواطنين أو حتى من حزب قوي يصوغ تطلعات جزء مهم من الشعب.
وشرح الكاتب كيف تعامل القذافي مع كرسي الحكم بعد نجاحه في اعتلاء السلطة في ليبيا بقوله: في اللحظة السوسيولوجية التي وصل فيها معمر القذافي إلى السلطة. ومنذ الأسابيع الأولى لحكمه فوجئ العسكري عديم التجربة بمقتضيات الفعل السياسي العلني بذلك الفراغ الذي تحدث عنه بورقيبة. فكان من جملة ما بادر به مجلس قيادة الثورة الذي أنشأه القذافي -إلى جانب تأميم شركات التأمين والبترول والبنوك وإغلاق القواعد العسكرية الأجنبية في البلاد- أن أسس حزباً جديداً سماه «الاتحاد الاشتراكي العربي»، محاكاةً لما فعله عبد الناصر في مصر، وكان يأمل أن يساعده في مقاومة ما كان يسميه الرجعية، أي مجموعة أقرباء الملك المخلوع وزبائنه وأحلافه، وأن يصنع له شرعية سياسية خاصة، على أساس مقاومة الاستعمار ونصرة الحق العربي والثورة على بقايا النظام الذي أطاح به.
الزعامة والجماهير واللجان الثورية
استعرض الكاتب ما أسماه الزعامة والجماهير واللجان الثورية في ليبيا موضحا أن: أجهزة الدولة الحديثة، ومواردها غير المسبوقة، قد ساعدت معمر القذافي بعدما استولى على السلطة على الاحتفاظ بتلك الزعامة وجعلها في صلب مؤسسات الدولة التي أعاد بناءها على المقاس. وأشار إلى أن قسماً كبيراً من بيوغرافيا معمر القذافي التي كتبت بعد 1969 (ربما لم يكن لكتابتها أي معنى قبل هذا التاريخ) قد صمم من أجل تأكيد تلك الزعامة في حد ذاتها. لكن ما سجلته ميريلا بيانكو سنة 1973، من خلال عدة حوارات أجرتها مع زملاء القذافي من أعضاء مجلس قيادة الثورة وغيرهم ممن عرفوه واشتغلوا معه، تؤكد كلها -رغم أن المستجوبين كانوا في تلك اللحظة يتحدثون عن زعيمهم- على شيء واحد وهو أن القذافي كان «شخصية مبادرة»، بما يعني أنه شجاع وذكي ويتحمل مسؤولية فعله، مما يجعل الذين يجرهم خلفه بحركته ونشاطه يثقون به ويلتفون حوله ويعتبرونه شخصاً استثنائيا.
وقد عبر عن ذلك بدقة محمد الزوي الذي استجوبته ميريلا بيانكو بشأن القذافي، حينما قال: «إن القذافي شخص من التفرد والاختلاف عن جميع أنماط الأشخاص الذين يمكن أن نقابلهم بشكل عادي في الحياة ما يجعلني أحيانا، أنا الذي عرفته عن قرب، أقر بأنني غير قادر على النفاذ إلى كنهه». وبالفعل فقد كان القذافي هو الشخصية المحورية التي التف حولها الشقان المدني والعسكري للمجموعة السياسية السرية الصغيرة التي نفذت انقلاب 1969.
واستطرد الكاتب مبينا أن هذه الخصائص الشخصية لم تكن حكراً على القذافي، فجميع الزعماء السياسيين في العالم -وحتى المدنيون منهم في الاقتصاد والإدارة يتمتعون عادةً بهذه الخصال. ولذلك فإننا لا نستطيع فهم الطريق التي سار فيها القذافي وكل أعضاء المجموعة النواة التي شكلها (وهي تشبه سوسيولوجياً، من ناحية انتمائها إلى جهات وأوساط اجتماعية مختلفة؛ المجموعة النواة التي شكلها الشيخ محمد بن علي السنوسي في القرن الـ19، وتولدت عنها مجموعة الإخوان السنوسيين)، إلا إذا وضعنا مثل هذه الشخصية النموذجية في إطار الإرث الثقافي والسياسي والاجتماعي الذي اشتغل فيه كل الزعماء الليبيين الذين سبقوه. والعنصر الأساسي في هذا الإرث التاريخي هو أن الزعيم لا بد وأن يحكم وأن يحتفظ بالحكم ويملك الموارد والنعم ويوزعها، ويقهر (ماديا أو رمزيا)، سواء كان ذلك بأدوات المجموعة البدوية المحاربة، أو بأدوات المجموعة الطرقية الدينية، أو بأدوات المجموعة العسكرية البيروقراطية، وفيما بعد بأدوات الدولة العصرية، وذلك رغم عدم تكافؤ القوى بين هذه النماذج.
وأشار إلى أن الضعف الكبير الذي وجد عليه القذافي الحياة السياسية الحديثة في البلاد تقاطع مع طموحاته الشخصية، ومع الإرث الثقافي الزعامي الذي تشبع به بشأن الكيفية التي ينظم بها الفعل السياسي، ليجعل من خيار الاحتفاظ بالسلطة خياره الاستراتيجي الأوحد، وهو ما يتناقض تماماً مع أيديولوجيا الأحزاب والنقابات والمؤسسات المدنية الحديثة.
زحف الجماهير
وأضاف أنه بمجرد أن ظهر للقذافي -وهو القيادي البارز من بين أعضاء «مجلس قيادة الثورة»- أن حزب «الاتحاد الاشتراكي العربي» لا يمثل الآلية المواتية للفعل السياسي الزعامي، بالضمانات والمواصفات التي ينشدها، أعلن حل ذلك الحزب، ومنع كافة أشكال التنظيم السياسي الممكنة، ونادى بزحف الجماهير على السلطة تحت شعار «السلطة للشعب»، وفتح الباب لمن كانوا خارج شبكات القرابة والزبونية التي أرستها المجموعة الزعامية الملكية المنهارة -خاصةً الريفيين منهم- كي ينخرطوا في الفعل السياسي تحت شعار «الخيمة تنتصر على القصر». ولفت إلى أن من بين هذه الجماهير التي أصبح الملهم المخلص من العبودية الاجتماعية (شعار: «السود سيسودون»)، ومن الهامشية السياسية (شعار: «السلطة للجماهير»)، شكل الزعيم الصاعد، اعتماداً على الوسائل التي منحها إياه الريع النفطي، مجموعة سياسية قرابية زبونية جديدة سماها اللجان الثورية، و»انتخب» أعضاءها الموثوق بهم من بين أولئك الذين لم يكن لهم «أصحاب» متنفذون في السلطة القديمة. وشيئاً فشيئاً بدأ القذافي يملأ ذلك الفراغ الحداثي الذي تحدث عنه بورقيبة بمجموعة زعامية جديدة، مواصفاتها الاجتماعية حديثة (أفرزتها التحولات التي أحدثتها دولة الاستقلال والطفرة البترولية الأولى)، وآليات بنائها واشتغالها زعامية تقليدية، تنبذ الالتزام بالدساتير المكتوبة ولا تقبل بتأطير النشاط السياسي داخل مؤسسات بيروقراطية. ولفت إلى أنه خلال فترة زمنية طويلة نسبيا، تخلص الزعيم - كما تقتضي مبادئ احتكار الزعامة- من معظم «الرفاق» القدامى في «مجلس قيادة الثورة»، واستغل منصبه السياسي كي يعيد اختراع ليبيا جديدة على مقاس طموحاته الخاصة، ووفق تصوراته لما ينبغي أن يكون عليه العمل السياسي، وبحسب فهمه لخصائص المجتمع الليبي. والأداة الحاسمة التي استخدمها القذافي هي التحكم في إعادة توزيع الثروة في اتجاه لا يترك أي فرصة للاقتصاد كي يولد نسيجاً اجتماعيا، تنبت على أرضه قوة سياسية معارضة. ومن ثم، لم يبق أمام الطامعين في الموارد والجاه إلا نعم الزعيم وسلطته. وفي هذه الأثناء، وطد القذافي دعائم سلطته عن طريق اللجان الثورية التي انبثق أعضاؤها من وسط «الجماهير الشعبية» في كل مكان، وعلى أنقاض المتنفذين القدامى في القرى والبوادي والمدن، إلا من التحق بالركب في الوقت المناسب، فظهرت الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى على مسرح الأحداث العالمية تحت صورة معمر القذافي الكاريزمية وشخصيته المشاغبة.
نهاية الدولة الزعامية
حلل الكاتب فترة حكم القذافي لليبيا التي استمرت أكثر من 40 عاما، مشيرا إلى تقاطع الضعف الكبير الذي وجد عليه القذافي الحياة السياسية الحديثة في البلاد مع طموحاته الشخصية، ومع الإرث الثقافي الزعامي الذي تشبع به بشأن الكيفية التي ينظم بها الفعل السياسي، ليجعل من خيار الاحتفاظ بالسلطة خياره الاستراتيجي الأوحد. ونبه إلى أن ما كان يثير المحللين والمراقبين للوضع في ليبيا خلال الـ40 سنة الماضية هو الاضطراب المستمر للحياة السياسية في البلاد.
وذكر أن بعض المحللين يحيل تلك الظاهرة إلى شخصية معمر القذافي نفسه التي تكره الروتين وتحب الأضواء وصخب النشاط السياسي الممسرح. وهذا صحيح إلى حد ما. ولعل جاه السلطة ونعمها، والتعود سنين طويلة على القيادة واعتباراتها، قد ضخم كثيرا من هذا الجانب في شخصية الرجل.
ولفت إلى أن النظام الزعامي في أخلص مظاهره، كما يمثله معمر القذافي، يكره حتى وجود قانون ينظم علاقة الحكم بينه وبين من يحكمهم. وبما أن النظام الذي أرساه القذافي يغلق الباب بشكل محكم أمام التداول السلمي على السلطة، فإن المكانة السياسية التي يحتلها على رأس هذا النظام كانت دائماً محط طمع أعدائه الطموحين غير المعلنين. وتعرض الكاتب لوضع اللجان الثورية في ليبيا، مبيناً أنها تنتشر في كل مكان تقريبا تحت شعار «اللجان في كل مكان». وهي ليست حزبا يمكن للأصول الاجتماعية لمنتسبيه أو لأيديولوجيتهم أن تضع قيوداً ولو أخلاقية أمام حرية الانتماء إليه. وأعضاؤها غير مقيدين في نشاطهم -القاعدي على الأقل- بنظام بيروقراطي يفرض على المنتمي إليه التدرج في مراتب القيادة على قاعدة قدرته على الإشعاع السياسي بين أعضاء التنظيم، واعتماداً على الانتخابات الداخلية. إنها إطار تنظيمي يشبه الرداء غير المفصل الذي يمكن له أن يتلبس بكل وسط اجتماعي دون التأثر بتقاطعاته العمودية والأفقية. وبما أنه كذلك، فهو قادر على الاشتغال سياسيا على كل تفاصيل علاقات القرابة والجيرة والصحبة والمصلحة التي تربط بين الناس.
وقال إن كل مكون اجتماعي أو جغرافي أو ثقافي من مكونات المجتمع الليبي أصبح مخترقاً من طرف اللجان الثورية. وفي تقاطع معها، أسس القذافي -الذي يعتبر القبيلة رداءً اجتماعيا وظيفيا- ما سماه المجالس القبلية، وهي إطار تتم من خلاله مراقبة العلاقات الداخلية التي تربط بين المجموعات القبلية في كل مكان، وتطويعها لمصلحة النظام السياسي السائد.
واستطرد مبينا أن تجربة القذافي الطويلة في الحكم بينت له أنه مهما طور من أساليب المراقبة السياسية، فإن المجتمع قادر دائما على ابتكار أساليب الإفلات من تلك المراقبة. ولسد مثل هذه الفجوات أسس في منتصف التسعينيات تنظيماً آخر يتقاطع مع «اللجان الشعبية» و»المجالس القبلية» ولكنه يختلف عنهما أيضاً سماه «القيادات الشعبية»، وهو موجه تحديداً إلى مراقبة الأحياء الشعبية في المدن. وفوق كل هذه الأطر وتحتها وبينها، شكل القذافي منظومات أمنيةً خاصة تراقب الجميع، ويراقب بعضها البعض، كما سمح لأبنائه بتكوين كتائب عسكرية جيدة التسليح لحماية النظام عند الحاجة الماسة، دون الاعتماد على الجيش النظامي. وقارن الكاتب بين وضع ليبيا عند وصول القذافي للحكم ووضعها حاليا عن قرب أفول زعامته، موضحا أن ليبيا 2011 لم تعد ليبيا 1969، فخلال هذه السنين الطويلة أصبح معظم الليبيين يسكنون المناطق الحضرية ومرتبطين بشبكات الماء والكهرباء والهاتف. كما أن زيادة الدخل الفردي للسكان أعطت للكثير منهم فرصة السفر والاطلاع بشكل مباشر على ما يجري في العالم الخارجي على المستوى التنموي والثقافي، بينما وفرت لهم وسائل الإعلام الحديثة فرصة المقارنة السياسية بين ما يجري في بلادهم وبقية العالم. ولفت إلى أن الأفق الاجتماعي بدأ يزداد انسدادا أمام كل من لم يغنم شيئاً مرضياً من موارد البترول الطائلة، تلك التي يعد بها القذافي شعبه في بداية كل سنة ثورية جديدة بمناسبة المؤتمرات العامة للجان الثورية. وبدأت وطأة الاستبداد السياسي تجد تعبيراتها المضادة والمختلفة، تارةً في التنظيمات السياسية الدينية السرية التي يقتلها النظام تقتيلا (حادثة سجن أبو سليم في طرابلس على سبيل المثال)، وتارةً في الانقلابات العسكرية الفاشلة التي اتعظ منها الزعيم فأضعف جيشه إلى الحد الأدنى من القوة، وتارةً في تشكيل جبهات معارضة في الخارج سرعان ما يلصق بها القذافي تهمة الخيانة والاستقواء بالخارج. ورغم أن النظام صمد في وجه كل هذه المحاولات، فإنها شكلت إيذانا بدخوله في أزمة حقيقية، خاصةً عندما صارت مطالب الديمقراطية أكثر إلحاحاً على الأنظمة السياسية المجاورة، ثم انفجرت الثورات الشبابية من حوله في تونس ومصر. ورغم ذلك فإن سؤال الحداثة السياسية الذي سيبقى مطروحاً في ليبيا هو: إذا كان القذافي قد منع الليبيين من التدرب على ممارسة الفعل السياسي بأدوات العصر الحديث فهل سيعيدون التأسيس لدولة زعامية جديدة من بعده؟
آفاق مستقبلية
ومشيا على عادة المحللين، عندما يقيمون أداء نظام سياسي يحتضر، في النبش في الفرص السياسية التي أتيحت له كي يتفادى السقوط وأضاعها لسبب أو لآخر. ذكر الكاتب أنه في حالة القذافي، كانت فرصة التوافق على تسليم السلطة لابنه سيف الإسلام، واعتماد دستور يسمح بالتداول المستقبلي على السلطة، محط الأنظار وموضوع الكثير من التحاليل. لكن الفرصة ضاعت، رغم أن مخاطر السقوط كانت تدق باب النظام بقوة، وهو ما أثار دهشة الكثير.
ونبه الكاتب إلى أن الثقافة السياسية والبنية السيكولوجية للزعماء تلعب دوراً لا يجب أن يستهان به في إنجاح مثل هذه المسارات السياسية أو إفشالها، لكن الحالة الليبية جد مميزة، فالقذافي وصل إلى السلطة وعمره أقل من 30 سنة، ولكي يستمر في منصبه قضى أكثر من 40 سنة يشيد نظاماً سياسياً خاصاً يقوم على مبدأ فرض الزعامة على الآخرين، وحشد كل آليات إعادة إنتاج الأتباع، مستخدماً في ذلك ثقافة تقليدية تفرزها روابط القرابة والزبونية والعنف، وهذا بدوره جعله إلى حد ما سجين مقتضيات التوازنات الداخلية لأولئك الأتباع. وذكر أن من العوائق الإضافية التي لم يجد لها القذافي حلا في الوقت المناسب هو أن مبدأ الزعامة كان يعطي نظريا لأبنائه الكثر نفس الحظوظ في خلافة والدهم. ووفقاً لهذا المبدأ فإن ما يكون قد عطل تسليم السلطة لسيف الإسلام هو بالضبط صراع الأبناء على الزعامة في ظرف يرفض فيه القذافي نفسه -وهذا من سوء حظ ليبيا أيضاً- التخلي عنها.