كنت أعرف بقرب الشهر الكريم من إعداد والدتي «الرقاق»
الصيام في الطفولة كان مغامرة حقيقية نحرص على خوضها تقليدًا للكبار
لمواجهة العطش والتعب كنا نذهب إلى المطبخ في الخفاء للشرب وأكل الرقاق مع التونة وكأن شيئًا لم يكن
لا أنسى لحظات التجمع حول المائدة قبل الأذان بوقت قصير.. ونراقب عقارب الساعة وهي تتحرك ببطء
رمضان في ذاكرة الفنان القطري سالم المنصوري ليس مجرد صيام وعبادة، بل هو فسحة من الذكريات العابقة بروائح الطعام، وضحكات العائلة، والمغامرات الطفولية التي رافقت أولى محاولاته للصيام. في حديثه، لـ «العرب» يستعيد الفنان سالم المنصوري تفاصيل تلك الأيام بحنين واضح، متنقلًا بين مشاهد تحضيرات رمضان، ومائدة الإفطار، والعادات الاجتماعية التي كانت تشكل جزءًا أصيلًا من الشهر الفضيل في المجتمع القطري.
وقال المنصوري: قبل أن يهل هلال رمضان، كانت البيوت القطرية تعج بالحركة، استعدادًا لاستقبال الشهر الكريم، وكانت الأمهات يقمن بتحضير المأكولات الشعبية التي لا تكتمل الأجواء الرمضانية من دونها.
وأضاف كانت والدتي - رحمها الله- تبدأ قبل رمضان بأيام قليلة في إعداد خبز الرقاق، وكانت هذه طقوسًا سنوية تعني لنا جميعًا أن الشهر الفضيل بات قريبًا. كنت أجلس بجوارها، أشاهدها وهي ترق العجين بعناية، ثم تضعه على الصاج الساخن. وبعد أن تفرغ من الخبز، كانت تعطيني ما يُسمى «ولد التاوة»، وهو قطعة صغيرة من العجين المتبقي، تصنعها لي خصيصًا بحجم صغير كنت أتناوله بسعادة وكأنه مكافأة خاصة لي على مشاركتي في هذه الطقوس.
وأوضح الفنان سالم المنصوري أن الصيام لم يكن في الطفولة مجرد التزام ديني، بل كان مغامرة حقيقية يحرص الأطفال على خوضها تقليدًا للكبار، رغم التحديات التي تواجههم، خاصة مع حرارة الطقس.
يضحك سالم وهو يتذكر محاولاته الأولى للصيام، قائلًا: «كنا نحب تقليد الكبار، فنتباهى بالصيام حتى وقت الظهيرة، لكن سرعان ما يبدأ العطش والتعب. حينها، كنا نلجأ إلى حلول سرية! كنت أذهب إلى المطبخ في الخفاء، أشرب بعض الماء بسرعة، ثم أتناول خبز الرقاق مع التونة، وكأن شيئًا لم يكن. وعندما يحين موعد الإفطار، أكون أول الجالسين على المائدة، أدّعي التعب والجوع وكأني صمت اليوم كله!»
لكن الأمر تغير مع مرور السنوات، فقد أصبح أكثر التزامًا بالصيام، خاصة مع تشجيع عائلته له على إتمامه. «أتذكر أن أول صيام كامل لي كان في سن 13، وكان ذلك بدافع إصرار أهلي، وأيضًا رغبتي في إثبات أنني كبرت وصرت قادرًا على تحمل مشقة الصيام مثلهم»
رسائل المحبة بين الجيران
ويضيف كانت للعادات الاجتماعية القطرية في رمضان خصوصية جميلة، أبرزها تبادل أطباق الطعام بين الجيران، وهي عادة ترسخ روح المحبة والتكافل بين الناس. يتذكر سالم تلك الأيام قائلًا: كان من أجمل اللحظات أن يطلب مني أهلي توصيل أطباق الطعام إلى الجيران.
كنا نحن الأطفال نلتقي عند الأبواب، كل واحد منا يحمل طبقًا مختلفًا، ونتبادل النظرات والابتسامات. لم يكن مجرد تقليد، بل كان شعورًا جميلاً بالترابط بين الأسر.
لحظة الانتصار
أما عن لحظة الإفطار، فيصفها سالم بأنها كانت أشبه بجائزة نهاية اليوم: «كان أذان المغرب بمثابة بشارة النصر! كنا ننتظر صوته بترقب شديد، ونتجمع حول المائدة قبل الأذان بوقت قصير، نراقب عقارب الساعة وهي تتحرك ببطء. وما إن يرفع الأذان، حتى تعم الفرحة أرجاء المنزل»
ويرى المنصوري أن رمضان لم يكن مجرد صيام، بل كان أيضًا موسمًا لاجتماع العائلة بأكملها مشيرا إلى أنه من أجمل ذكريات رمضان هي تلك الجلسات العائلية التي كانت تجمع الكبار والصغار حول سفرة واحدة.
يقول كنا نستمتع بحكايات الأجداد عن رمضان في الماضي، ونستمع إلى القصص التي تحمل عبق الزمن الجميل. اليوم، ورغم أن بعض الأحبة رحلوا، إلا أننا نحاول إعادة تلك الأجواء مع أبنائنا، فنروي لهم ذكرياتنا، ونضحك على مغامرات طفولتنا مع الصيام»
أكلات مفضلة
وعن الأكلات الرمضانية التي لا يستغني عنها، يقول سالم: «المائدة الرمضانية القطرية لا تكتمل بدون القريد والهريس والمحلبية، لكنني شخصيًا أحب السمك أكثر من أي شيء آخر. الأكلات الشعبية كانت وما زالت جزءًا أساسيًا من رمضان، فهي تحمل نكهة الماضي وتراث الأجداد»
يؤكد سالم أن رمضان ليس مجرد شهر صيام، بل هو محطة روحية واجتماعية تغير إيقاع الحياة بالكامل: «رمضان يعيد ترتيب أيامنا وساعاتنا، فهو ليس فقط صيامًا عن الطعام، بل فرصة للتقرب من الله، ووقت خاص للعبادة، وقراءة القرآن، وصلاة التراويح. كما أن ليالي رمضان لها طابعها الفريد، حيث يجتمع الأهل والأصدقاء، ويمتد السهر حتى ساعات الفجر، مما يجعل هذا الشهر مميزًا عن باقي أيام السنة»
هكذا يبقى رمضان بالنسبة للفنان سالم المنصوري، ليس مجرد شهر في التقويم، بل فسحة زمنية تعيده إلى طفولته، وتفتح أمامه أبواب الذكريات، وتمنحه فرصة جديدة للتواصل مع ذاته ومع من يحب. إنه شهر يجمع بين الروحانيات، والعادات الجميلة، ومذاق الأطعمة التي تحمل رائحة الماضي، وأصوات الضحكات التي تبقى رغم مرور السنين.