قصة أصغر طفل قطري يتحدى السكري منذ 22 عاماً
محليات
15 يونيو 2011 , 12:00ص
الدوحة - إسماعيل طلاي
لم يكن محمد السعدي قد أكمل عامه الرابع حينما حمله القدر ليمضي أسبوعين بمستشفى حمد العام بسبب إصابته بالسكري!
باكرا أفاق الطفل على كابوس يرعب الكبار، فما بالك بفتى يطلب منه الأطباء فجأة أن يتخلى فورا وإلى الأبد عن كثير من شقاوة وملذات الطفولة، ويدك بيديه أربع إبر يوميا في جسده الثخين، وفحص مماثل لنسبة الدم في السكر ست مرات في اليوم، أيضا!
خلال ساعتين من الزمن، تحدث محمد خالد أحمد علي السعدي لـ «العرب» بكثير من الفخر، الممزوج أحيانا بالأسى عن قصة تحديه للسكري، ولا يزال يذكر جيدا حينما دخل المستشفى أول مرة ذات يوم من العام 1989، كيف تعطل جهاز فحص السكري بعد أن فاق 700 ميلي غرام (MLDL )، وقد اندهش الأطباء لجسمه الثخين.
كان «الفتى المرعوب» يبدي تضايقا وسخطا كبيرا، ويحاول التمرد على تعليمات الأطباء التي تلزمه بأخذ أربع إبر يوميا، وقياس نسبة السكري في الدم 6 مرات، ناهيك عن حرمانه من تناول الكثير من الحلويات والسكريات التي لا يصبر عليها من هم في سنه، وإلزامه بنظام غذائي خاص، وتعليمات صارمة من والديه بعدم الخروج دون إذنهما ومخالطة الأطفال، خشية التصادم معهم!.. محاذير، جعلته يشعر أنه مختلف عن أقرانه ومحروم من حياة الطفولة باكرا، دونما أن يدري سبب ذلك، لأن الوالدين قررا إخفاء السر عليه في بادئ الأمر، قبل أن تواجهه الممرضة بالحقيقة المفزعة: «محمد ممنوع عليك أكل الشيكولاتة والسكريات لأنك مصاب بالسكري يا بني!».
«طيش الأطفال»..
وعاقبة التمرد على المرض!
تقبل محمد مرضه بكثير الخوف، وكان يعتقد أن الإبر أمر مؤقت، وليس مطلوبا منه سوى التخلص من السكريات مؤقتا. وكحال أي مريض في سنه يعشق «طيش الطفولة»، كان يسترق الحلويات خلسة، إلى أن أفاق على حاله ممدا على سرير المستشفى، بعد أن دخل فيما يسمى لدى مرضى السكري «غيبوبة كيتونية»، بسبب ارتفاع نسبة السكر في الدم، وفقد الوعي أربعة أيام كاملة، فكانت عاقبة «تمرده» على أوامر الأطباء المكوث في المستشفى شهرا كاملا، وهو لا يزال في صفه السادس!
هواجس المدرسة..
أيها المعلمون..ارحموا طفل السكري !.. نصيحة، أصر محمد أن يبلغها لمعلمين يدرسون أطفالا مرضى بالسكري، وهو يستعيد تجربته المرة مع معلمة كانت تصر على حرمانه من حقه في الذهاب إلى المرحاض، فيضطر الطفل إلى التبول لا إراديا فوق مقعده، قبل أن يغطي «الفضيحة» من أعين زملائه مستعينا بالمحفظة، فكان آخر طالب يغادر الصف ليضمن الستر! ويروي كيف أن والديه «حاربا» لأجل حقه الإنساني، بينما كانت المعلمة تتحجج بأنه يتخذ مرضه ذريعة للذهاب إلى المرحاض، غير آبهة بمعاناته، وبتقرير المستشفى!! وانتهى الأمر باستبدال صفه، أمر لم يخفف من حزن الطفل على فراق زملائه الذين تعود عليهم من أول صف دراسي.
إصابته بالسكري، لم تمنع محمد من التفوق في دراسته، فكان يحتل المراتب الأولى، لكن قرار المعلمة فعل ما لم يفعله المرض، وأثر على نفسيته كثيرا طيلة عام كامل، فتراجع أداؤه، قبل أن يستعيد إرادة التحدي لأنه رفض أن تسحق معلمته طموحه في النجاح.
«طفل البواسل» وبداية التحدي
ست سنوات كاملة، لم يكن الطفل يفارق إبره الأربع يوميا أو يتخلف عن فحص نسبة السكر في الدم 6 مرات يوميا! بل كان يداوم على مطالعة الكتب الطبية، لمعرفة نوعية الأكل الواجب التقيد به لمواجهة السكري! وعي اكتسبه الفتى من انخراطه المبكر في الجمعية القطرية للسكري، فكان أول وأصغر طفل قطري مصاب بالسكري ينخرط في الجمعية لدى افتتاحها عام 1995، بعد أن كان لها فرع في مستشفى حمد العام لاستقطاب الأطفال المصابين بالسكري. «آه، أتذكر جيدا ! كان طفلا صغيرا، ثخين الجسد لما دخل علينا مقر الجمعية، واليوم أصبح ركيزة أساسية فيه»، تقول عواطف السيد، المتطوعة والموظفة بالجمعية القطرية للسكري.
استمع الطفل محمد لأول شرح عن أهداف الجمعية برفقة والديه، ليكون أول من يمضي استمارة عضوية «طفل البواسل» في قطر، منبئا بانطلاق رحلة تحد مثيرة في مكافحة المرض، سيكون لها شأن كبير في المستقبل!
في السادسة من عمره، بدأ محمد يشارك في حملات ونشاطات توعية، ويحضر ندوات توعية، وبرامج للمتطوعين، فنمت بداخله روح قوية لتحدي المرض، علق عليها قائلا «هنا، عرفت أنه يمكنني أن أغير حياتي، فكنت أذهب إلى الجمعية صباحا ومساء، لأنني عشقت رسالتها وعملها، ودونما أن أشعر، كانت قدماي تقوداني إلى مقر الجمعية، وصرت أعرف عن المرض الكثير مما كنت أجهله!».
«مخيم جولين».. توعية صحية نوعية
«حب التطوع» منذ الصغر، أثمر في يوليو عام 1997 اختباره برعاية من سمو الشيخة موزا بنت ناصر، ليكون ضمن مجموعة من أقرانه المرضى في وفد رسمي يمثل بلده قطر في «مخيم جوزلين» لتوعية الأطفال مرضى السكري في بوسطن بالولايات المتحدة الأميركية.
«أسبوع قلب حياتي، وغير مفهومي لكيفية التعايش مع السكري»، يلخص محمد كيف أفاد من المخيم في تعلم نوعية الرياضة التي يمكنه أن يتابعها لتخفيف الوزن، والنظام الغذائي السليم بسعرات حرارية محددة، إلى درجة يمكن للمريض أن يطبخ وجبته بمفرده، وصولا إلى كيفية ترتيب غرفته الشخصية أيضا! ويروي ضاحكا كيف كان المدربون صارمين في إجبارهم على التقيد بوجبات صحية معينة، وبكميات مدروسة، ومن لم ينه وجبته، يعاقب بحرمانه من وجبات أخرى، ويجبر على إنهائها لاحقا، أو تفرض عليه تمارين رياضية لتنفتح شهيته على الأكل الصحي.
«الأنسولين» بأقل الآلام
بل إن القائمين على المخيم، علموهم كيف يمكنهم تعاطي الأنسولين بطرق شتى، أبرزها عبر البطن، الأمر الذي كان يبدو شاقا ومؤلما في نظر محمد، قبل أن يدرك أن تعاطيه عبر البطن بدلا من اليد أو الرجل، يساعد على امتصاص سريع للأنسولين، وتقليل نسبة الدم بشكل أسرع، كما تعلم أيضا كيفية تعاطي الأنسولين في الذراع ببساطة، بعد وضع «دبدوب صغير» تحت الكتف لتهيئة اليد.
الصداقة.. «أدرينالين» الشفاء
وعلق قائلا: «كان أهم شيء تعلمته أن المرض ليس عيبا، وإخفاؤه عن الآخرين أكبر غلط، كما أنه لا حاجة للاستحياء من تعاطي الإبر أمام الآخرين، فهي مجرد إبرة، ويمكن أخذها في أي وقت، وحينما أخفي عن الآخر مرضي، فإنه لا يدرك كيف يتعامل معي» مضيفا «المخيم، جعلني أغير قناعاتي وأبدد الكثير من مخاوفي، فأصبحت أقدم على كسب صداقات كثيرة، بعدما كنت أعتقد أن الناس لن يرغبوا في مصادقة مريض بالسكري»!
ومنذ عودته، يروي محمد كيف ساهم أصدقاؤه الأربعة «فهد إسحاق» و«حسن الذياب»، و«خميس عبد الله»، و«حسن القاضي»، و«جاسم محمد» في تغيير قناعته، فقد غيروا مجرى حياته منذ أن عرفهم في الثانية من الإعدادي، فكانوا أحرص منه على نظامه الغذائي الصحي، لدرجة أنهم يتناولون معه الوجبات نفسها، ويجبرونه عل برنامج رياضي صارم، ويتفقدون أدويته وجرعاتها.. «حينما نكون معا، كنت أنسى أنني مريض بالسكري، وصداقتهم ضاعفت ثقتي في نفسي على تحدي المرض، ولأجل ذلك ما زلنا أصدقاء منذ 1999».
«مخيم البواسل».. محمد قائداً
تأثير «مخيم جوزلين» على نفسية المرضى، والتقرير الإيجابي الذي أعدته الجمعية، جعل سمو الشيخة موزا بنت ناصر تقترح إنشاء مخيم مماثل، فكانت فكرة «مخيم البواسل» الذي انطلق سنة 1998 لتدريب وتوعية أطفال قطر، وقد نجحت جمعية السكري اليوم في تنظيم 12 طبعة منهن بمشاركة أطفال من دول مجلس التعاون الخليجي، ثم دول عربية، فإسلامية، فشرق أوسطية.
حكاية التحدي.. نحو العالمية
سريعا تحول محمد من «طفل البواسل» إلى «شباب التحدي» بعد مسيرة 11 عاما من العطاء في توعية الأطفال المرضى، فانتزع باستحقاق صفة القائد المتطوع في المخيم، وأشرف على تنظيم أول معسكر لـ «شباب التحدي» الأول سنة 2000 برعاية الشيخ جوعان بن حمد، ومشاركة خليجية، فواصل رحلته التطوعية بصفته مسؤول قسم البرامج، ينقل حكاية تحديه للمرض لأقرانه، ويبث الأمل في نفوس الأطفال المرضى، وينظم برامج ودورات تدريبية وقوافل صحية، ناهيك عن برامج تثقيفية في المجمعات والأندية الشبابية حول كيفية تلقي العلاج لمرضى السكري والتعايش معه.
رحلة التطوع وتحدي السكري، امتدت لاحقا إلى خارج قطر، فبات اسم محمد السعدي مطلوبا للتحدث وعرض تجربته، وتمثيل بلاده في مخيمات أخرى بالبحرين وجنوب إفريقيا، وقريبا في بيروت لقيادة ورشة ومعسكرات تدريبية مع شباب من دول عربية.
كما حقق محمد حلمه بحصوله على قرار التعيين، مرتقيا من متطوع، إلى سكرتير في مركز المتطوعين، فإداري في برامج الرعاية، وصولا إلى منصب مساعد مختص لبرامج الرعاية الصحية في الجمعية القطرية للسكري.
حلم «الطب» و«فتاة الأحلام»
الشاب الذي احتفل بعامه السادس والعشرين، ينظر اليوم بكثير من الفخر لما أنجزه في مسيرة 22 عاما من تحدي السكري. واليوم، لا يسكن فؤاده حلم أكبر من اقترانه من بالفتاة التي اختارها قبل أن يبلغ عامه الثامن والعشرين إن شاء الله.
وقد قرر أن ينتظرها حتى تنهي دراستها، لأنه وجد فيها فتاة أحلامه المستعدة للتعايش مع ظروف مرضه، بل إنها فاجأته برغبتها الملحة في التطوع بالجمعية، بينما يأمل هو أن ينجب منها توأما «عائشة» اسم أمه، و«فهد» أحب الأسماء إلى قلبه.
وفي البال حلم آخر، قرر محمد أن لا يتخلى عنه، بالعودة إلى مقاعد الدراسة التي أجبرته ظروف الحياة أن يغادرها باكرا بعد أن تلقى نعي شقيقه الأكبر وهو على طاولة الامتحان داخل المدرسة! ليتسلم محمد مشعل المسؤولية باكرا، وقد قرر اليوم أن يعود ليحقق حلمه بدراسة الطب لعلاج المرضى، أو دراسة العلاقات العامة لتساعده في التواصل الأمثل مع المرضى والمهددين بالسكري.
كفاح أثمر تخفيف العلاج
ولأن الحلم الأكبر لمريض السكري هو التغلب على الداء، فإن حب التطوع، ودعم الأصدقاء، كانا دافعا نفسيا، إلى جانب عوامل أخرى جعلت محمد يتغلب تدريجيا على المرض، فلم يصدق أنه اليوم يعيش حياة طبيعية، وقد ارتقى في السلم الوظيفي في الجمعية، بعدما دخلها متطوعا، بل إنه تفاجأ لقرار الأطباء الذي شرح نفسيته كثيرا، فقد أخبروه قبل خمس سنوات من الآن بتخفيف الإبر إلى اثنتين، بدل أربع، تماما كما خف فحص نسبة السكر في الدم من ستة إلى مرتين في اليوم. لكنه يظل مواظبا على فحص أسبوعي أربع مرات في يوم واحد.
قصة تحد.. باتت علاجاً متداولاً
22 عاما، رحلة علاج مع المرض لا تزال متواصلة، كان يمكن أن تكون كلها معاناة وألما، لكن توفيق الله وإيمان محمد بقدره، ووقفة أصدقائه جعلته يتخطى المحنة، وعلمته المسؤولية التي تلقاها باكرا بعد فقدان أخيه الأكبر، فجعلت منه «شابا قائدا» يدير الكثير من المخيمات والمعسكرات التدريبية داخل وخارج قطر لأجل توعية الأطفال والشباب المصابين بالسكري. كما أكسبته ثقافة التطوع شخصية قوية مكنته من ضخ دماء الإرادة وروح مقاومة المرض لدى الكثير من أقرانه المرضى، مستلهما قوة الإقناع من حكاية تحد مثيرة، باتت اليوم أشبه بـ «أدرينالين» يستعين بها الأطباء لإعادة روح الحياة والكفاح للأطفال المرضى، كلما حاول اليأس أن يسري إلى نفوسهم. وحينما سألنا محمد ما كان يقوله للأطفال والشباب المرضى بالسكري لرفع معنوياتهم، ردا مبتسما: «أذكرهم دوما أن مرضنا ليس عيبا، ولو فكرتم في معاناة مرضى السرطان والإيدز وغيرهم، وسمعتم قصص تحديهم للمرض فستحمدون الله، ولهانت عليكم حالكم، وتأكدتم أن الله خفف عنكم كثيرا، فلا بد أن تتمسكوا بنعمة الحياة»!