القرضاوي: القرآن يهدي إلى الرشد ويسمو بالإنسان
الصفحات المتخصصة
13 نوفمبر 2015 , 07:14ص
يوسف القرضاوي
كان من أكبر أمنياتي أن أتوجه لكتابة تفسير مختصر للقرآن الكريم، وعزمت على ذلك وأعلنت هذا الأمل المتجدد، ودعوت الله أن يحققه لي، ليكون حاشية في مصحف قطر، بخط الخطاط المتقن عبيدة البنكي السوري، وبدأت بتفسير سورة الفاتحة وسورة النبأ، لكني وجدت أن ما يجول في خاطري من معاني القرآن يأبى أن يتقيد بحاشية مطبوعة على المصحف، فخرجت عن هذه الخطة إلى الكتابة المسترسلة، على طريقتي في التأليف التي اعتدتها منذ كتابي الأول: الحلال والحرام في الإسلام.
ووفق الله فأتممت تفسير جزء عم، وهأنذا قد أتم الله عليّ تفسير جزء تبارك، وأسأل الله أن يبارك في الوقت والجهد لأتم ما أؤمله من تفسير كتابه.
وهذا جزء تبارك بين أيديكم، وقد قدمت -على طريقتي في تفسير جزء عم- لكل سورة بذكر أهم مقاصدها، ثم أفسر سائرها، جزءًا جزءًا، وآية آية، جاعلًا اهتمامي الأول أن أفسر القرآن بالقرآن، ثم بالسنة الصحيحة، جامعا بين العقل والنقل، والرواية والدراية، مستعينا أولا بالتأمل، ثم بقراءة التفاسير المهمة والاقتباس منها، ولن يعدم القارئ فيه فائدة، وسيجد فيه الخطيب والمحاضر والمدرس والداعية زادا نافعا.
{يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا}
وقال الجن: إنَّ من صفة هذا القرآن العَجَب الذي سمعوه: أنه يهدي إلى الرُّشْد، يعني إلى استِنارة العقل، الذي ينقل الإنسان من الخطأ إلى الصواب، ومن العِوَج إلى السَّدَاد، ومن السَّفَه إلى الرَّشاد.
والقرآن إنما يهدي إلى الرُّشد، ويسمو بالإنسان إلى أن يكون في طليعة الراشدين، قال تعالى:{أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ * فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً} [الحجرات:7-8].
وقال تعالى عن خليله إبراهيم: {وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ} [الأنبياء:51].
وقال تعالى: {قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ} [البقرة:256].
وقد وجد هذا النَّفرُ من الجنِّ القرآنَ فيما استمعوه من القرآن: أنه يهدي إلى الرشد، بما تدلُّ عليه الآيات، وما تُرشِد إليه السُّوَر، وما يعبر عنه مجموعُ القرآن: {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ} [الإسراء:9]، فأعلنوا أنهم لما سمعوا القرآن آمنوا به، وقالوا: {فَآمَنَّا بِهِ}. ويفهم من إيمانهم بالقرآن: أنهم آمنوا بالله الذي أنزله، وآمنوا بوحدانيَّته، وأنه لا إله غيره، ولذلك قالوا: {وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا}.
فنالوا التوحيد ببراءتهم من الشرك، فإن مَن آمن بأن الله واحد لا شريك له، ولا نِدَّ له، ولا ضدَّ له، لا بد أن كل أنواع الشرك منفيَّةٌ عنه {وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا}.
ومن نفى الشرك كله، وأخلص الوحدانية لله، فقد خلُص قلبه وعقله وضميره وحياته كلها لله، ومن أشرك بالله فقد وقع في الضلال البعيد، ونزل من علياء التوحيد إلى أسفل أودية الشرك. ولهذا يقول تبارك تعالى: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31].
{وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا}.
أعلن هؤلاء القوم الذين أنار الله بصائرَهم، وفَتَح عقولَهم ببَيِّنات القرآن، أنهم بمجرد أن سمعوا القرآن تدبَّروه، فهداهم إلى الإيمان بربِّهم، فآمنوا صادقين، إيمانًا لا يميل به عن التوحيد لونٌ من الشِّرك؛ لأنهم آمنوا بالله ربًّا، فلن يشركوا بالله في الربوبية، وآمنوا بالله إلهًا واحدًا، فلا يستحق أحدٌ العبادةَ غيره في الأرض أو في السماء، فهم يُفردونه بالعبادة والاستعانة، كما عُلِّمنا أن نقول إذا قرأنا الفاتحة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5].
تنزيهه سبحانه
عن الصاحبة والولد:
{وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا}:
هذا مما قاله هذا النفر من مؤمني الجن للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، فهو مما سمعوه، وكان حق (أنَّ) في قوله: {وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا} أن تكون مكسورة، عطفًا على قولهم: {إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا}، لكنهم جعلوه من جملة ما آمنوا به، في قولهم: {فَآمَنَّا بِهِ}، أي: آمنا به وبأنه تعالى جدُّ ربِّنا.
وممَّا تعلَّمه هؤلاء الجن مما سمعوه من القرآن العجيب، وآمنوا به: أنه تعالى جَدُّ الله سبحانه، كما نقول في دعاء استفتاح الصلاة: «سبحانك اللهم وبحمدك، وتبارك اسمك، وتعالى جَدُّك، ولا إلهَ غيرُك»( ).
قال عدد من المفسِّرين: تعالى جدُّه: أي: علا مقامه وعظمته وسلطانه. كما قال أنسٌ رضي الله عنه: كان الرجل إذا قرأ البقرة وآل عمران- أي إذا حفظهما– جَدَّ في أعيُنِنا( ). أي: عظُم وكبُر وعلا مقامه. فهذا هو من الجَدِّ الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما رواه الشيخان: «ولا ينفع ذا الجَدِّ منك الجَدُّ»( ).
معنى {تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا}:
وقال مجاهد: {تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا}: أي تعالى ذِكْرُه. وقال بعضهم: جلالُه. وقال ابن عباس: قدرُه وأمْرُه . وهذا كلُّه مُتَّجِهٌ؛ لأن الجد- كما قال الإمام ابن عطية- (هو حظُّ المَجْدود من الخيرات والأوصاف الجميلة، فجَدُّ الله تعالى هو الحظ الأكمل من السلطان الباهر، والصفات العَلِيَّة والعظمة، ومن هذا قول اليهودي حين قدم النبيُّ صلى الله عليه وسلم المدينةَ: يا بَنِي قَيْلَةَ، هذا جَدُّكم الذي تنتظرون. أي: حظُّكم من الخيرات وبَخْتُكم).
{مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا}:
وقد ختمت الآية بقول مؤمني الجن: {مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا} فبعد أن أعلنوا: تَعَالِي مقامِ ربِّنا- تعالى الله عُلُوًّا كبيرًا- أعلنوا أنه تعالى ما اتَّخذ صاحبة ولا ولدًا. يعني: أن مقتضى الوحدانيَّة التي أعلنها القرآن تُقَرِّر أنه جلَّ وعلا لا يجوز له أو عليه: أن يتَّخذ صاحبة، أو يتَّخذ ولدًا؛ لأن كل ما عداه إنما هو مِلْك له، وعبدٌ له سبحانه، وكذا كل ما يملكه العبد، فهو مِلْكٌ لله تعالى، فكما هو مُقَرَّر في فقهِنا وواقعنا: أن العبدَ وما ملكت يداه لسيده. وكما قال تعالى: {إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا * لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا} [مريم:93-95].
وهذا يرد على الذين زعموا من العرب أن الملائكة بناتُ الله، ويرد على الذين جعلوا لله ابنًا، كما قال بعض الهنود من قديم، وكما قال بعض اليهود: عزيرٌ ابنُ الله. وكما قالت النصارى: المسيح ابنُ الله.
ولو كان لله ولد لكان له صاحبة- أي: زوجة- وهم لا يقولون ذلك. ولذلك ردَّ اللهُ عليهم فقال: {بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ} [الأنعام:101].
وكيف يكون له ولد وكل ما عداه عبيده؟! {وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء:26-27].
فكان رد القرآن على الجميع بنفي الوالديَّة والوَلَدِيَّة عن الله تعالى، كما قال تعالى في سورة الإخلاص: {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ * اللَّهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [الإخلاص:1-4].
من اعترافات مؤمني الجن قولُ سفيههم الشطط على الله:
ثم قال تعالى على لسان مؤمني الجن: {وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا}.
السَّفَه: الخِفَّة، والمراد بها خِفَّة العقل والعلم. وفي سورة البقرة: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة:13]. وفيها: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة:142].
والجنُّ هنا يعلنون أنَّ سفيهَهُم كان يقول على الله شَطَطًا، فمَن سفيهُهم؟ قالوا: هو اسم جنسٍ لكلِّ سفيه. وإبليس هو مُقَدَّم السفهاء، والله تعالى قال: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف:50].
والشَّطط: هو التَّعدِّي وتجاوز الحد. ويقال: أَشَطَّ في السَّوْم، إذا أبعد فيه: أي يقول قولًا هو في نفسه شَطَط، وهو نسبة الصاحبة والولد إلى الله تعالى، وكل ما عدا الله، ومَنْ عند الله؛ فهو مخلوق له سبحانه.
قال الرازي: (واعلم أنه لما كان الشطط هو مجاوزة الحد، وليس في اللفظ ما يدلُّ على أن المراد مجاوزة الحد في جانب النفي أو في جانب الإثبات، فحينئذ ظهر أن كلا الأمرين مذموم. فمجاوزة الحد في النفي تُفْضي إلى التعطيل، ومجاوزة الحد في الإثبات تُفضي إلى التَّشبيه، وإثباتِ الشريك والصاحبة والولد. وكلا الأمرين شطط ومذموم).
الماديُّون من بني الإنسان ينكرون وجود الجنِّ:
ولا شك أن الماديِّين من بني الإنسان ينكرون وجود الجنِّ، كما ينكرون وجود الملائكة، فكلُّ ما لا يدخل تحت دائرة الحسِّ، لا يجوز- عندهم- للعقل الإنساني أن يعتبره موجودًا. وهكذا اتفق الفلاسفة الماديون (الذين لا يؤمنون إلا بالمادة) قديمًا وحديثًا.
فهناك المؤمنون بالغيب، أي: بكل ما غاب عن الحسِّ، من الله جلَّ جلاله، ومن الملائكة، ومن الشياطين، والجنِّ عامة، وهناك من لا يؤمن إلا بالمادة، وهي ما يتحيَّز وإن صغُر.
وقد كتب الإمام الفخر الرازي صفحات كثيرة في تفسيره عمَّن يؤمن بالجنِّ ومن لا يؤمن به من الفلاسفة، الذين ينتمون إلى الإسلام، وإن كانوا لا يأخذون فكرَهم الأساسي إلا من فلاسفة الإغريق، وخصوصًا فيلسوفهم الأكبر ومعلِّمِهم الأوَّل أرسطو.
قال الرازي: (اختلف الناس قديمًا وحديثًا في ثبوت الجنِّ ونفيه، فالنقل الظاهر عن أكثر الفلاسفة إنكاره، وذلك لأنَّ أبا عليِّ بنِ سينا قال في رسالته في (حدود الأشياء): الجنُّ حيوانٌ هَوائيٌّ مُتَشكِّل بأشكال مختلفة.
ثم قال: وهذا شرح للاسم. فقوله: وهذا شرح للاسم، يدل على أن هذا الحدَّ شرحٌ للمُراد من هذا اللفظ، وليس لهذه الحقيقة وجود في الخارج.
وأما جمهور أرباب الملل، والمصدِّقين للأنبياء، فقد اعترفوا بوجود الجنِّ، واعترف به جَمْع عظيم من قدماء الفلاسفة).
ولا يزال في أصحاب التفكير الماديِّ مِنَ المسلمين مَنْ يجحد أو يشكِّك في وجود الجنِّ، ومنهم من يدَّعي الإيمان به، لذكره في القرآن، ولكنَّه يُؤَوِّله تأويلًا يخرج عن لغة العرب، ولا يقبله دين ولا عقل.
يتبع الجمعة القادمة إن شاء الله.