من فقه الشرح

alarab
الصفحات المتخصصة 13 مايو 2016 , 06:41ص
احمد يوسف علي
هل يحتاج الإنسان إلى راحة القلب والضمير؟ وهل يستطيع أن يتجاهل هذه الحاجة؟ تعودنا أن نشير إلى القلب بوصفه مكاناً للعواطف والانفعالات، ولكن القرآن أتى بلفظة «الصدر» وجعلها موضع الضيق والحرج كما جعلها موطن الراحة والانبساط، وجعل هذا الضيق داعيا للكدر والألم وتنغيص الإحساس بالحياة وسماه «وزرا» وشيَّد مقابلة معنوية بين أحاسيس الضيق والحرج وأحاسيس الفرج والانبساط وجعل لهذه الأحاسيس المتقابلة دواعيها في مناشط الحياة ومكارهها بما يفيد أن مسيرة الإنسان في الحياة تتزود بقوة الدفع الإيجابي وتنطلق، وتتأثر بقوة الدفع السلبي فتتخاذل، وكعادة القرآن في عرضه القضايا الإنسانية، يستخدم العرض الحسي عبر وسيط إما بشري وإما طبيعي مثل « أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ» أو مثل «رب رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى» أو « وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ» ومثل مشاهد الحوار بين موسى وفرعون، أو اللجوء إلى التشبيه التمثيلي في مواضع كثيرة يصعب تقديمها في هذا الحيز.
والعرض الحسي الذي نقصده هنا هو خطاب القرآن للرسول « أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ»؟ مع أن الخطاب له صفة العموم والشمول، وهذا الخطاب يشير إلى الغائب وهو ضيق الصدر وإلى دواعي هذا الضيق ودوره السلبي في مسيرة الفرد والجماعة معا، وقد بنى القرآن هذا العرض على المقابلة وهي صورة أسلوبية لمواقف إنسانية واجهها الرسول؛ ولأنه بشر مثل كل البشر فقد ضاق صدره بأفعال الناس الذين شوهوا منجزه وسفهوا دعوته ورموه بصفات ليست فيه، ومع علمه اليقيني بصدق رسالته وصدق مصدرها وهو ما نسميه «الإيمان» فقد أصابه الهمُّ والكدر والضيق، وهذا ملمح بشري خالص يتساوى فيه كل الناس حين تضيق بهم كل السبيل فلا يجدون فرجاً مما هُم فيه من الضيق ولا يطعمون الطعام ولا يذوقون النوم.
هذا الموقف الإنساني هو مصدر المقابلة الأسلوبية ومعينها الثري؛ لأن هذا الضيق حين يبلغ ذروته، ينكسر تصاعده وتبدو أمارات الفرج والراحة، وقد تجلت المقابلة الأسلوبية في هذا الاستهلال الإنشائي العظيم « أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ» الذي يتضمن معنى الخبر بما فيه من بشرى ويقين فيما تلاه من قوله « وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ» فالضيق وما به من غم هو «وزر» حمل ثقيل ربما كان حمله على الأكتاف أهون من حمله في الصدور، وقد يرشح هذا الحمل الثقيل في الصدر الإحساس بوطأته على الظهر الذي تفكك وقوض، فالمقابلة الحسية صورة ظاهرة مرئية. والشرح يحمل معاني عديدة تقابل كل آثار»الوزر» ومن معانيه الانبساط بعد الضيق والفرج بعد الشدة، ووضوح الرؤية بعد غموضها، والتفصيل بعد الإجمال، والخلاص من القيد، والحرية بعد الأسر والثبات بعد التردد، واليقين بعد الشك، وقد تجلت هذه المعاني المتقابلة في موضع آخر هو قوله تعالى: «فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ» فصورة المقابلة ليست زخرفاً ولا زينة ولا عنصراً طارئاً على بنية الدلالة، ولكنها صورة ذات أصل عضوي في الموقف الاجتماعي وهذا ما يرسخ وظيفة النص القرآني في الحياة قبل المسجد ويدعونا إلى معانقة الحياة فرحين بها وبما ينتج عنها من جزاء «وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ».

أ. د. أحمد يوسف علي يوسف
أستاذ النقد الأدبي والبلاغة
قسم اللغة العربية، كلية الآداب والعلوم- جامعة قطر
ahmed@qu.edu.qa