أم مريم عليها السلام في سورة آل عمران

alarab
باب الريان 12 يوليو 2014 , 02:00ص

الدرس الرابع عشر

{إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ * فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ} [آل عمران: 33-36].

حديث القرآن عن الأمهات الصالحات:

هذه الآيات الكريمة من سورة آل عمران، تتحدث عن قصة أم صالحة، وقد عُنيَ القرآن الكريم بعدد من الأمَّهات الصالحات، حدثنا عن أم موسى عليه السلام ودورها في حياة موسى وتاريخه، حدثنا هنا عن أم مريم، ويحدثنا بعد ذلك عن مريم نفسها أم عيسى، إنَّه يحدثنا عن أولئك النساء الصالحات اللائي كان لهن دورٌ في تاريخ الرسالات السماوية، لأنَّ المرأة التي لها دورٌ في التاريخ يجب أن يذكر، فالقرآن الكريم ليس كتاب الرجال وحدهم، إنَّه كتاب الرجال والنساء جميعًا.

اصطفاء الله لأنبيائه:

وقد بدأت قصة هذه المرأة بأن ذكر الله تعالى أسرتها بأنَّها من الأسر المصطفاة المختارة، فقال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، اصطفى الله آدم، وقد خلقه الله تعالى بيديه، ونفخ فيه من روحه، وأمر الملائكة بالسجود تكريمًا له، وعلَّمه الأسماء كلَّها، وجعله خليفة في الأرض، وهي منزلة تطلعت إليها الملائكة، كرّمه الله بهذا التكريم كله، واصطفاه عزَّ وجلَّ، وليس صحيحًا ما بنى عليه النصارى عقيدتهم من أنَّ آدم أخطأ خطيئة كبرى لا تُغتفر، وأنَّ هذه الخطيئة ما زال ذريّته من البشر يحملون وزرها إلى اليوم، وإلى أن تقوم الساعة، وأنَّهم بذلك احتاجوا إلى مخلص وفادٍ يفديهم، ليس هذا صحيحًا، فإنَّ هذه الخطيئة لم تكن رفضًا لحكم الله أو تمردًا على أمره، وإنّما كانت نتيجة النسيان والغفلة وضعف العزم، كما قال الله تعلى: {فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا} [طه:115]، ثم إن آدم قد تاب فتاب الله عليه، والله تعالى توابٌ رحيم، وصدق الله العظيم إذ يقول: {وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى} [طه:121-122]. {إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا} شيخ المرسلين، أرسل إلى البشر بعد أن أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانًا، وعبدوا الأصنام من دون الله، نوح ظلَّ في قومه ألف سنة إلاَّ خمسين عامًا، يدعوهم إلى الله سرا وجهارًا، وليلاً ونهارًا، فلم يزدهم دعائه إلاَّ فرارًا!

اصطفاء أسرة آل إبراهيم وآل عمران

اصطفى الله آدم ونوحًا فردَيْن، واصطفى آل إبراهيم وآل عمران أسرتين، اصطفى آل إبراهيم أسرة إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط ويوسف عليه السلام، اصطفى هذه الأسرة، اصطفى المؤمنين منهم، ففيهم من ليس محسنًا، ومن لم يسر في هذا الركب الطاهر الكريم، كما قال الله تعالى في كتابه في شأن إبراهيم وإسحاق: {وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ} [الصافات:113].

واصطفى آل عمران، والمراد بعمران هنا الذي سميت باسمه واسم آله هذه السورة عمران والد مريم، وليس عمران والد موسى وهارون، فهنا قال: آل عمران، وذكر امرأة عمران، وفي آياتٍ أخرى ذكر مريم ابنة عمران، فهذا هو المقصود بعمران هنا، مريم وأمها وعيسى بن مريم، كل هؤلاء من آل عمران، وآل عمران اصطفاهم الله على العالمين، أي عالمي زمانهم، {ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ}، ورثت الصلاح والتقوى، ومن شابه أباه فما ظلم، ومن ورث الصلاح عن آبائه وأهله فما ظلم {وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}، سميع لأقوالهم، عليم بنياتهم.

امرأة عمران تنذر ما في بطنها لله

{إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}، هذه بداية هذه القصة، قصة هذه الأم المؤمنة الصالحة، لقد حملت، فماذا كان يجيش في مشاعرها؟ إنَّها لم تشغل أن يكون هذا المولود ذا جاه، أو ذا سلطان، أو ذا مركزٍ ومال، إنَّها أرادت أن يكون لله، نذرته أن يكون خادمًا للمعبد، نذرته للخير والتقوى والصلاح {إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا}، أي: خالصًا لك، ليس فيه أي شائبة شرك بأحد من خلقك، هذا ما كان يشغلها، لا ما يشغل كثيرًا من النساء من الدُّنيا والزينة.

أهمية قبول العمل

{فَتَقَبَّلْ مِنِّي}، دائمًا يُشغل المسلم بعمل الصَّالحات، ويُشغل أيضًا بقبولها، فليس المهم فقط أن تعمل، ولكن المهم أن يقبل العمل، كما قال إبراهيم وإسماعيل وهما يرفعان القواعد من البيت: {رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [البقرة:127]، كان بعض السلف من الصالحين يبكي، قالوا له: ما لك تبكي يا أبا فلان، وما نرى عليك إلا خيرًا؟ لقد كنت ممن يصوم النهار ويقوم الليل، قال وما أدراني أنَّ هذا يقبل مني، وقد قال الله تعالى: {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ} [المائدة:27].

لهذا عُنيت هذه المرأة بالقبول، فدعت ربها قائلة: {فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ}.

معنى ليس الذكر كالأنثى

{فَلَمَّا وَضَعَتْهَا}، لمَّا وضعت هذا الجنين الذي كان في بطنها، والذي نذرته لله، والذي كانت تظن أنَّه سيكون ذكرًا، يعمل في المعبد وخدمة المعبد، ويخدمه ويقوم بأمره، ولكن كان الأمر غير ما توقعت {فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى}، حزنت هذه المرأة، أصابها الأسى والحسرة، أنَّ هذا المولود لم يكن ذكرًا كما تريد {إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى}، وليس عندها علمٌ أن هذه الأنثى سوف يكون لها شأن عظيم، وأمرٌ فخيم، ستذكر وسيخلدها التاريخ، إنَّها مريم التي اصطفاها الله وطهَّرها واصطفاها على نساء العالمين، ولكنَّ الأم لم تكن تعلم {قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ}، أيُّ أنثى وضعت، إنَّها ليست ككل الإناث {وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى} ليس الذكر الذي تمنته خادمًا للكنيسة، وقائمًا بأمر المعبد، ليس كهذه الأنثى، إنَّها أنثى لا كالإناث، إنَّ بعض الإناث قد يفوق الكثير من الرجال، كما قال الشاعر قديمًا:

ولو كانت النساء كمثل هذي

لفضِّلت النساء على الرجال

فما التأنيث لاسم الشمس عيبٌ

وما التذكير فخرٌ للهلال

هذه أنثى، ولكنَّها أنثى سيكون لها دورٌ، إنَّها مريم. قالت الأم الصالحة: {إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى}، ويعلق الله على ذلك بقوله: {وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى}، وتقول هي: {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ}، سميت هذه المولودة مريم، ومعنى مريم: خادمة الرب عندهم، فإنَّها تريد أن يكون المسمَّى مطابقًا للواقع، تتوقع لها أن تكون عابدة لله، فإن لم تصلح أن تكون خادمة للمعبد، فلتكن خادمة لربِّ المعبد، خادمة لله سبحانه وتعالى، {وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ}، وسمتها من أول يوم، ولهذا لا بأس أن يسمي الإنسان ابنه من أول يوم، ويجوز أن يسميه بعد السابع.

تحصين المولود والذريَّة من الشيطان الرجيم

{وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}، أُحَصِّنُها يا رب من الشيطان الرَّجيم، من هذا المخلوق الرجيم، أي المرجوم، أي المطرود البعيد من رحمة الله تبارك وتعالى، هذا الملعَّن الذي يحاول أن يُفسد على الناس أمورهم، هذا المخلوق الذي ابتلى الله الناس به، ذكورهم وإناثهم، فأمُّ مريم تلجأ إلى الله سبحانه وتعالى، تقف على عتبة الله سبحانه وتعالى وتتحصَّن به، وتحصِّن ابنتها بالله عزَّ وجل من هذا الشيطان الرجيم، فكثيرًا ما أضلَّ الناس، وكثيرًا ما وسوس في صدور الناس، وكثيرًا ما فتن العابدين والعابدات، وهي لا تنسى أنه قد أغوى أباها آدم عليه السلام، وقاسمه ودلاَّه بغرور حتى أكل من الشجرة، فهي لا تستبعد هذه الأم الصالحة أن يوسوس لهذه البنت، هذه الأنثى؛ ولهذا تقول: إني أعيذها بك يا رب وذريتها من الشيطان الرجيم.

قبول الله استعاذةَ امرأةِ عمران

كانت أمًّا صالحة، كانت أمًّا مؤمنة، وقد قبل الله سبحانه وتعالى استعاذتها، وحصَّن هذه المرأة، حصَّن هذه الأنثى، حصَّن هذه المولودة، حصنها في مستقبل حياتها، وحصَّن كذلك ذريتها، حصن لها ابنها، ولم يكن لها من الذريَّة إلاَّ عيسى ابن مريم عليه السلام، حصَّنها الله سبحانه وتعالى، وحقَّق آمالها، وأجاب دعاءها، حقَّق الله سبحانه وتعالى ذلك، فأعاذ مريم، وأعاذ ذريَّة مريم من الشيطان الرجيم.

منهج القرآن في عرض القصص

انظروا ماذا يصنع الإيمان بأهله، ماذا يصنع الإيمان بأصحابه، هذه امرأة سجلَّ الله سبحانه وتعالى ذكرها في كتابه، لم يسمِّ القرآن هنا اسم هذه الأم، من هي أم مريم عليها السلام؟ لم يذكر القرآن شيئًا عن اسمها؛ لأنَّ القرآن لا يُعنى في قصصه بذكر الأسماء ولا بذكر الأمكنة، ولا بذكر الأزمنة، ولا بذكر الأشخاص، ولا بذكر التواريخ، إنَّه يذكر القصص للعبرة، وهو يذكر في كل قصة ما يناسب المقام، ولا يذكر مالا ينتفع الناس به، وما يأخذون منه لبَّ العبرة.

لقد ذكر القرآن هنا شيئًا عن قصة مريم، وذكر شيئًا آخر عن هذه القصة في سورة مريم التي سُمِّيت باسمها، ولكن ذُكِر هنا ما لم يُذكر هناك، ذكر هنا عن ولادة مريم ما لم يُذكر في سورة مريم، في سورة مريم ذُكر عن ولادة عيسى أكثر ممَّا ذكر هنا، وهكذا القرآن حينما يكرر القصة لا يكررها تكراراً كاملاً كما يظن بعض الناس، ولكن يعرض مشهدًا كأنَّه المصور الذي يأخذ لقطة للإنسان من جانبه الأيمن، أو من جانبه الأيسر، أو من الأمام، أو من الخلف، أو من فوق، أو من تحت، وكل منظر وكل مشهد يعطي شيئًا غير ما يعطي الآخر، وإن كانت كلُّ المناظر وكلُّ اللقطات لشيء واحد.

هذا قصص القرآن، وهذه قصة مريم، وهذه قصة أمِّها المرأة الصالحة، التي تقبَّل الله منها دعاءها، وتقبَّل ابنتها بقبول حسن، وكان لها ذكرٌ في العالمين.

نسأل الله تعالى أن يفقهنا في ديننا، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أولئك الذين هداهم الله وأولئك هم أولو الألباب.