القرضاوي: قيام الساعة لا يعلمه إلا الله
الصفحات المتخصصة
11 ديسمبر 2015 , 07:41ص
يوسف القرضاوي
كان من أكبر أمنياتي أن أتوجه لكتابة تفسير مختصر للقرآن الكريم، وعزمت على ذلك وأعلنت هذا الأمل المتجدد، ودعوت الله أن يحققه لي، ليكون حاشية في مصحف قطر، بخط الخطاط المتقن عبيدة البنكي السوري، وبدأت بتفسير سورة الفاتحة وسورة النبأ، لكني وجدت أن ما يجول في خاطري من معاني القرآن يأبى أن يتقيد بحاشية مطبوعة على المصحف، فخرجت عن هذه الخطة إلى الكتابة المسترسلة، على طريقتي في التأليف التي اعتدتها منذ كتابي الأول: الحلال والحرام في الإسلام.
ووفق الله فأتممت تفسير جزء عم، وهأنذا قد أتم الله عليّ تفسير جزء تبارك، وأسأل الله أن يبارك في الوقت والجهد لأتم ما أؤمله من تفسير كتابه. وهذا جزء تبارك بين أيديكم، وقد قدمت -على طريقتي في تفسير جزء عم- لكل سورة بذكر أهم مقاصدها، ثم أفسر سائرها، جزءًا جزءًا، وآية آية، جاعلًا اهتمامي الأول أن أفسر القرآن بالقرآن، ثم بالسنة الصحيحة، جامعا بين العقل والنقل، والرواية والدراية، مستعينا أولا بالتأمل، ثم بقراءة التفاسير المهمة والاقتباس منها، ولن يعدم القارئ فيه فائدة، وسيجد فيه الخطيب والمحاضر والمدرس والداعية زادا نافعا.
كلام العلامة أبي السعود في تفسير الآية:
قال العلامة أبو السعود: ({عَالِمُ الْغَيْبِ} خبرُ مبتدأٍ محذوف، أيْ: هو عالم الغيب. والجملة استئنافٌ مُقَرِّر لما قبله من عدم الدراية، والفاء لترتيب عدم الإظهار على تفرُّده تعالى بعلم الغيب على الإطلاق، أي: فلا يُطلع على غيبه إطلاعًا كاملًا ينكشف به جَلِيَّة الحال انكشافًا تامًّا موجِبًا لعَيْن اليقين أحدًا من خلقه {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} أي: إلا رسولًا ارتضاه لإظهاره على بعض غيوبه المتعلِّقة برسالته، كما يُعرب عنه بيانُ {مَنِ ارْتَضَى} بالرسول تعلُّقًا تامًّا، إما لكونه من مبادئ رسالته، بأن يكون معجزة دالَّةً على صحَّتها، وإما لكونه من أركانها وأحكامها؛ كعامَّة التكاليف الشرعيَّة التي أُمِر بها المُكَلَّفون، وكيفيَّات أعمالهم، وأَجْزِيَتها المُترتِّبة عليها في الآخرة، وما تتوقَّف هي عليه من أحوال الآخرة، التي مِن جُملَتِها قيامُ الساعة والبعث، وغير ذلك من الأمور الغيبيَّة التي بيَّنها من وظائف الرسالة.
وأما ما لا يتعلَّق بها على أحد الوجهين من الغيوب، التي من جملتها وقت قيام الساعة؛ فلا يُظهِر عليه أحدًا، على أنَّ بيان وقته مُخِلٌّ بالحكمة التشريعيَّة التي عليها يدور فَلَكُ الرسالة.
وليس فيه ما يدل على نفي كرامات الأولياء المتعلِّقة بالكشف؛ فإن اختصاص الغاية القاصية من مراتب الكشف بالرسل، لا يستلزم عدم حصول مرتبة ما من تلك المراتب لغيرهم أصلًا، ولا يدَّعي أحدٌ لأحدٍ من الأولياء ما في رتبة الرسل عليهم السلام من الكشف الكامل الحاصل بالوحي الصريح.
وقوله تعالى: {فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} تقريرٌ وتحقيق للإظهار المستفاد من الاستثناء، وبيانٌ لكيفيَّته، أي: فإنه يسلك من جميع جوانب الرسول صلى الله عليه وسلم عند إظهاره على غيبه حَرَسًا من الملائكة يحرسونه، من تعرُّض الشياطين لما أظهره عليه من الغيوب المتعلِّقة برسالته.
وقوله تعالى: {لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} متعلق بـ(يسلك)، غاية له من حيث إنه مترتِّب على الإبلاغ المترتب عليه. إذ المراد به العلم المُتعلِّق بالإبلاغ، الموجود بالفعل، و(أَنْ) مخففة من الثقيلة، واسمها الذي هو ضمير الشأن محذوف، والجملة خبرُها، و{رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ} عبارة عن الغيب الذي أريد إظهار المرتضَى عليه، والجمع باعتبار تعدد أفراده، وضمير {أَبْلَغُوا} إما للرَّصَد، فالمعنى أنه تعالى يسلكهم من جميع جوانب المرتَضى، ليعلم أن الشأن قد أبلغوه رسالات ربهم سالمة عن الاختطاف والتخليط علمًا مستتْبِعًا للجزاء، وهو أن يعلمه موجودًا حاصلًا بالفعل، كما في قوله تعالى: {حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ} [سورة محمد:31]).
قال الإمام القرطبي: ({عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} فيه مسألتان:
الأولى: قوله تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ} عالمُ رفعًا نعتًا لقوله: {رَبِّي}. وقيل: أي هو عالم الغيب والغيب ما غاب عن العباد.
{ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} فإنه يظهره على ما يشاء من غيبه؛ لأن الرسل مؤيَّدون بالمعجزات، ومنها الإخبار عن بعض الغائبات، وفي التنزيل على لسان عيسى: {وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ} [آل عمران:49].
وقال ابن جبير: {إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} هو جبريل عليه السلام. وفيه بُعدٌ، والأَوْلَى أن يكون المعنى: أي: لا يُظهر على غيبه إلا من ارتضى، أي: اصْطَفى للنبوة، فإنه يُطلعه على ما يشاء من غيبه؛ ليكون ذلك دَالًّا على نبوته).
كَذَب المنجِّمون في دعاويهم:
قال القرطبي: (الثانية: قال العلماء رحمة الله عليهم: لما تمدَّح سبحانه بعلم الغيب، واستأثر به دونَ خلقه، كان فيه دليل على أنه لا يعلم الغيبَ أحدٌ سواه، ثم استثنى من ارتضاه من الرُّسل، فأودعهم ما شاء من غَيْبه بطريق الوحي إليهم، وجعله معجزة لهم، ودلالة صادقة على نُبوَّتهم، وليس المُنَجِّم، ومن ضاهاه ممَّن يضرب بالحصى، وينظر في الكتب، ويزجر بالطير؛ ممَّن ارتضاه من رسول، فيطلعه على ما يشاء من غيبه، بل هو كافر بالله، مفترٍ عليه بحَدْسه وتخمينه وكَذِبه.
قال بعض العلماء: وليت شعري ما يقول المنجِّم في سفينة ركب فيها ألف إنسان على اختلاف أحوالهم، وتبايُن رتبهم، فيهم الملِك والسُّوقَة، والعالم والجاهل، والغنيُّ والفقير، والكبير والصغير، مع اختلاف طوالعهم، وتباين مواليدهم، ودرجات نجومهم، فعمَّهم حكمُ الغرقِ في ساعة واحدة؟ فإن قال المنجِّم قبَّحه الله: إنما أغرقهم الطالع الذي ركبوا فيه، فيكون على مقتضى ذلك أن هذا الطالع أبطل أحكام تلك الطوالع كلها على اختلافها عند ولادة كل واحد منهم، وما يقتضيه طالعه المخصوص به، فلا فائدة أبدًا في عمل المواليد، ولا دلالة فيها على شقيٍّ ولا سعيد، ولم يبقَ إلا معاندة القرآن العظيم، وفيه استحلال دمِه على هذا التَّنجيم، ولقد أحسن الشاعر حيث قال:
حَكَم المنجِّم أنَّ طالِعَ مولدي يقضي عليَّ بمِيتة الغَرَقِ
قُل للمنجِّمِ صبحةَ الطوفانِ هلْ وُلد الجميعُ بكَوْكب الغرقِ
وقيل لأمير المؤمنين عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه لما أراد لقاء الخوارج: أتلقاهم والقمرُ في العَقْرَب؟ فقال رضي الله عنه: فأين قمرُهم؟. وكان ذلك في آخر الشهر. فانظر إلى هذه الكلمة التي أجاب بها، وما فيها من المبالغة في الرد على من يقول بالتنجيم، والإفحام لكل جاهل يحقِّق أحكام النجوم.
وقال له مسافرُ بن عَوْف: يا أمير المؤمنين، لا تسِرْ في هذه الساعة، وسِرْ في ثلاث ساعات يمضين من النهار. فقال له علي رضي الله عنه: ولِمَ؟ قال: إنَّك إنْ سِرْتَ في هذه الساعة أصابك وأصاب أصحابك بلاءٌ وضُرٌّ شديد، وإن سِرْتَ في الساعة التي أمرتُكَ بها ظَفِرْتَ وظَهَرْتَ وأصبتَ ما طلبتَ. فقال عليٌّ رضي الله عنه: ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم مُنجِّمٌ، ولا لنا من بعده- من كلام طويل يحتج فيه بآيات من التنزيل- فمَنْ صدَّقك في هذا القول لم آمَن عليه أن يكون كَمَن اتَّخذ من دون الله نِدًّا أو ضِدَّا، اللهمَّ لا طيْرَ إلا طَيْرُكَ، ولا خيْرَ إلا خَيْرُك. ثم قال للمُتكلِّم: نُكذِّبك ونخالفك، ونسير في الساعة التي تنهانا عنها. ثم أقبل على الناس فقال: يا أيها الناس، إياكم وتعلُّمَ النُّجُومِ، إلا ما تهتدون به في ظلمات البر والبحر، وإنَّما المُنَجِّم كالساحر، والساحر كالكافر، والكافر في النار، والله لئن بلغني أنَّك تنظر في النجوم وتعمل بها لأُخلِّدنَّك في الحبس ما بقيتُ وبقيتَ، ولأحرمنَّك العطاء ما كان لي سلطان. ثم سافر في الساعة التي نهاه عنها، ولقي القوم، فقتلهم. وهي وقعة النَّهْرَوان الثابتة في الصحيح لمسلم. ثم قال: لو سرنا في الساعة التي أمرنا بها وظفرنا وظهرنا، لقال قائل: سار في الساعة التي أمر بها المنجِّم، ما كان لمحمد صلى الله عليه وسلم منجِّم، ولا لنا من بعده، فتح الله علينا بلاد كسرى وقيصر وسائر البلدان. ثم قال: يا أيها الناس، توكَّلوا على الله وثِقُوا به، فإنه يكفي ممَّن سواه.
{فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} يعني: ملائكة يحفظونه عن أن يقرب منه شيطانٌ، فيُحفظ الوحْيُ من استراقِ الشياطين، والإلقاء إلى الكهنة.
قال الضحَّاك: ما بعث الله نبيًّا إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين عن أن يتشبَّهوا بصورة المَلَك، فإذا جاءه شيطانٌ في صورة الملك قالوا: هذا شيطان فاحذره. وإن جاءه الملك قالوا: هذا رسول ربِّك. وقال ابن عباس وابن زيد: رصدًا أي حَفَظة يحفظون النبيَّ صلى الله عليه وسلم من أمامه وورائه من الجنِّ والشياطين. قال قتادة وسعيد بن المسيَّب: هم أربعة من الملائكة حَفَظَة.
وقال الفرَّاءُ: المراد جبريل، كان إذا نزل بالرسالة نزلت معه ملائكة يحفظونه من أن تستمع الجنُّ الوحيَ، فيلقوه إلى كَهَنتهم، فيسبقوا الرسول .
وقال السُّدِّي: {رَصَدًا} أي حفظة يحفظون الوحي، فما جاء من عند الله قالوا: إنه من عند الله، وما ألقاه الشيطان قالوا: إنه من الشيطان.
و(رصدًا) نُصِبَ على المفعول. وفي الصحاح: والرَّصَدُ القوم يرصدون كالحَرَس، يستوي فيه الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث، وربما قالوا أرصادًا)).
يتبع الجمعة القادمة إن شاء الله