أكد السيد محمد أحمد الكبيسي مسؤول أول البرامج والخدمات المهنية، بمركز قطر للتطوير المهني، أن اختيار التخصص خطوة استراتيجية تُبنى على الوعي الذاتي والفهم الواقعي لاحتياجات سوق العمل، وأن الاختيار لا يكون عشوائيًا أو مبنيًا فقط على الرغبة اللحظية أو تأثير الأقران، مشيراً إلى أهمية الميول الشخصية والقدرات والبحث المستمر حول مجالات العمل وفرص التوظيف المستقبلية في اختيار التخصص.
ونوه الكبيسي في حوار مع «العرب» بأهمية دور أولياء الأمور في توجيه الأبناء، لافتاً إلى أن دراسة لمركز قطر للتطوير المهني خلُصت إلى أن 65% من الطلاب القطريين يتكّلون على أولياء أمورهم في الحصول على المشورة المهنية. وإلى تفاصيل الحوار:
◆ ما أبرز النصائح للطلاب المقبلين على المرحلة الجامعية لاختيار تخصصاتهم؟
¶ من أهم النصائح التي يمكن تقديمها للطلبة المقبلين على المرحلة الجامعية هي أن يتعاملوا مع اختيار التخصص كخطوة استراتيجية تُبنى على الوعي الذاتي والفهم الواقعي لاحتياجات سوق العمل. لا ينبغي أن يكون الاختيار عشوائيًا أو مبنيًا فقط على الرغبة اللحظية أو تأثير الأقران، بل يجب أن يكون نابعًا من فهم عميق للميول الشخصية، والقدرات، والقيم، بالإضافة إلى البحث المستمر حول مجالات العمل المتاحة وفرص التوظيف المستقبلية.
لذلك أنصحهم، كخطوة أولى، بالتأمل مطولًا في أهدافهم الأكاديمية والمهنية، والتفكير بالمهارات التي يحتاجون لتطويرها أو اكتسابها، كمهارات التفكير النقدي، وإدارة الوقت، والتواصل، بالإضافة إلى متابعة مستجدات سوق العمل. ثم من المهم إجراء بحث مفصل عن الجامعات والبرامج المتاحة داخل دولة قطر وخارجها، مع مراعاة البيئة الأكاديمية والاجتماعية التي تناسبهم، وإمكانية متابعة التخصص أو الدراسات العليا في المجال الذي يميلون إليه في حال رغبوا بذلك مستقبلًا.
كما يجب على الطلبة، وعلى شبكات الدعم المحيطة بهم من أولياء أمور، ومرشدين مهنيين، ومعلمين، وحتى الأقران الأكبر سنًا، أن يتزودوا بما يستطيعون من المعلومات حول التخصصات الأكاديمية، وما تُفضي إليه من مجالات مهنية، وذلك طبعًا من المصادر الموثوقة التي يوفرها مركزنا وغيره من الجهات المختصة، وذلك ليتمكنوا من تقديم المشورة الأفضل، والنصيحة الأمثل لطلبتنا. ونحن ندرك تحديدًا دور أولياء الأمور الرئيسي في التأثير على قرارات أبنائهم الأكاديمية والمهنية، وننظر إليهم باعتبارهم المرشدين المهنيين لأبنائهم في المنزل. كما نعلم أن ما يقرب من 65% من الطلاب القطريين يتكّلون على أولياء أمورهم في الحصول على المشورة المهنية، بحسب دراسة أجريناها في هذا الشأن.
وهنا يأتي دور التوجيه المهني، الذي يُعد ركيزة أساسية في تمكين الطالب من خوض هذه الرحلة بسلاسة، واتخاذ قرارات مدروسة ومستنيرة. فالتوجيه لا يقتصر على إعطاء النصيحة، بل يشمل كذلك التقييمات النفسية والمهارية، وتوفير معلومات دقيقة ومحدثة عن التحصيل الأكاديمي وسوق العمل، وتقديم تجارب استكشاف مهني حقيقية للطلبة كبرامج المعايشة المهنية والتدريب الداخلي.
إن اختيار التخصص الصحيح هو استثمار في المستقبل، على المستوى الفردي، وعلى مستوى الوطن، ومركزنا سيكون دومًا مع الشباب لدعمهم وتمكينهم من التخطيط لهذه المرحلة بكفاءة وثقة.
تدخل إيجابي
كيف يكون تدخل أولياء الأمور في تحديد تخصص الأبناء إيجابياً؟
¶ يُعدّ تدخل أولياء الأمور في اختيار تخصصات أبنائهم إيجابيًا حين يكون مبنيًا على الدعم والتوجيه، لا على الإملاء والفرض. فدور الأسرة في هذه المرحلة محوري، لكن نجاحه يتطلب توازنًا بين خبرة الوالدين وميول وقدرات الأبناء. التدخل الإيجابي يعني أن يكون الوالد مرشدًا لا موجّهًا، يصغي لاهتمامات الابن، ويشجعه على استكشاف ذاته، ويزوده بالمعلومة، لا أن يفرض عليه توجهًا مهنيًا قد لا ينسجم مع طبيعته.
وتشير الدراسات إلى أن الطلبة الذين يحظون بدعم أسري مبني على الحوار والاحترام المتبادل يكونون أكثر قدرة على اتخاذ قرارات مهنية ناضجة. كما أن إدراك الوالدين لأهمية التوجيه المهني يسهم في خلق بيئة منزلية محفّزة على التفكير المنهجي واتخاذ القرار السليم.
لهذا السبب، يحرص مركز قطر للتطوير المهني على إشراك أولياء الأمور في كل ما يتعلق بالتوجيه المهني للشباب والشابات، ونعمل باستمرار على تزويدهم بالأدوات والمعارف اللازمة لدعم أبنائهم دون التدخل السلبي في اختياراتهم. فالتخصص لا يجب أن يكون تحقيقًا لطموح الوالد، بل استثمارًا في مستقبل الابن، يُبنى على التفاهم والتمكين.
◆ بعض الطلبة يختارون تخصصات تندر في سوق العمل، فهل يؤثر هذا الأمر على عملهم في التخصصات المناسبة؟
¶ اختيار تخصص نادر في سوق العمل ليس بالضرورة قرارًا خاطئًا، لكنه يتطلب وعيًا أوسع وبحثًا أعمق حول تبعاته، وخطة واضحة لكيفية الاستفادة منه. فالتخصصات النادرة قد تفتقر إلى فرص التوظيف الفورية، لكنها في الوقت نفسه قد تفتح مجالات تخصصية دقيقة أو أكاديمية أو بحثية لا تتوافر فيها الكفاءات بسهولة، مما يمنح الطالب ميزة تنافسية على المدى الطويل.
المشكلة لا تكمن في ندرة التخصص بحد ذاته، بل في افتقار الطالب لرؤية مهنية شاملة، تربط تخصصه بالفرص على أرض الواقع. والتوجيه المهني القويم يساعد الطالب على فهم ديناميكيات سوق العمل، وبناء المهارات القابلة للنقل مثل التفكير النقدي، والتواصل، والقدرة على التكيّف، والتي تُمكنه من التنقل بين القطاعات والإبداع في أي منها.
التخصصات التقنية والهندسية
◆ ما أكثر التخصصات التي يحتاجها سوق العمل في قطر؟
¶ سوق العمل في قطر يشهد تنوعًا مستمرًا ومتغيرًا، مع تركيز كبير على التخصصات التي تدعم رؤية الدولة في إنشاء اقتصاد معرفي ومستدام. من التخصصات التي يحتاجها السوق القطري حاليًا حسب متابعاتنا، على سبيل المثال لا الحصر، نذكر التخصصات التقنية والهندسية، مثل هندسة البرمجيات، والذكاء الاصطناعي، وتحليل البيانات، وهندسة البنى التحتية الافتراضية، والتي تلعب بمجموعها دورًا محوريًا في مشاريع التنمية الكبرى والتحوّل الرقمي للدولة.
والتخصصات الصحية والطبية كذلك تبقى تخصصات حيوية وضرورية للتأقلم مع النمو المتزايد للقطاع الصحي واحتياجاته المتنوعة. وينطبق ذلك على التخصصات الإدارية والمالية أيضًا، بما في ذلك إدارة الأعمال، وإدارة الموارد البشرية، وهي مجالات مهمة لدعم بيئة الأعمال وتطوير المؤسسات الوطنية.
مركز قطر للتطوير المهني بدوره يحرص على تحديث بياناته بشكل دوري من خلال الدراسات والتحليلات لسوق العمل القطري، ويوفر أدوات إرشادية للطلاب والباحثين عن عمل، تساعدهم على اتخاذ قرارات مهنية مستنيرة تتناسب مع الفرص الوطنية المتاحة. ونؤكد دومًا على أهمية التوازن بين ميول الفرد واحتياجات السوق لتحقيق التنمية المستدامة.
هل هناك ضرورة لتدريس مهارات التطوير المهني في الصفوف الدراسية الثانوية والجامعية؟
¶ بكل تأكيد، الوعي المهني في المراحل الثانوية والجامعية لم يعد ترفًا تربويًا، بل أصبح ضرورة ملحّة تفرضها متغيرات سوق العمل، وتسارع التحوّلات الاقتصادية والتكنولوجية. فمهارات الجاهزية المهنية لا تقتصر على مرحلة ما بعد التخرج، بل تبدأ في سن مبكرة، وتشكل جزءًا لا يتجزأ من بناء الشخصية، وتعزيز جاهزية وقدرة الطلبة على الالتحاق بالحياة المهنية.
إدماج التدريب على كتابة السير الذاتية، ومهارات المقابلة الشخصية، وإدارة الوقت، واتخاذ القرار المهني، يُسهم في بناء جيل قادر على التخطيط لمستقبله، وفهم ذاته، والتميّز في بيئات العمل المستقبلية. كما أن هذه المهارات تعزز من قدرة الطالب على التكيّف مع التحوّلات وتحديات المهن المستقبلية، وتزيد من فرص نجاحه في بيئة سوق العمل التي باتت تتطلب التعلم المستمر والمرونة.
وعي شبابي بمستقبل الاقتصاد العالمي
◆ ثمة توجه كبير من الشباب على التخصصات التقنية، فهل يؤثر ذلك على غيرها من التخصصات؟
¶ الإقبال الكبير على التخصصات التقنية يعكس وعيًا متزايدًا لدى الشباب بأهمية هذه المجالات في مستقبل الاقتصاد العالمي، لا سيّما في ظل الثورة الصناعية الرابعة والتحوّل الرقمي الذي يشهده العالم، وقطر جزء فاعل فيه. إلا أن هذا التوجه، رغم أهميته، قد يؤدي إلى اختلال في التوازن إذا تم على حساب تخصصات أخرى لا تقل أهمية في بناء مجتمع متكامل واقتصاد متوازن.
فالمجتمع لا يقوم على التقنية وحدها، بل يحتاج إلى تخصصات في التعليم، والصحة، والفنون، والعلوم الاجتماعية، والقانون، وغيرها. هذه التخصصات تُسهم في دعم الاستقرار المجتمعي، وتشكيل الهوية الثقافية، وتقديم الخدمات الحيوية التي لا يمكن الاستغناء عنها. بالتالي، فإن حصر الاهتمام في مجال واحد قد يؤدي إلى فجوات مهنية على المدى البعيد.
لذلك، نعمل دومًا في مركز قطر للتطوير المهني على تشجيع التوازن المهني، من خلال تقديم صورة شاملة للخيارات المهنية المتاحة، وتوعية الطلبة بأهمية التنوع في التخصصات، وربط كل تخصص بدوره في خدمة رؤية قطر الوطنية. نحن نؤمن بأن بناء اقتصاد المعرفة لا يتحقق إلا بتكامل التخصصات، وتوجيه الشباب وفقًا لقدراتهم وطموحاتهم الفردية.
◆ كيف يمكن توجيه الشباب إلى التخصصات التي يحتاجها سوق العمل، بما يُسهم في سد الشواغر الوظيفية في السوق القطري؟
¶ توجيه الشباب نحو التخصصات التي يحتاجها سوق العمل يتطلب منظومة متكاملة تجمع بين التعليم، والتوجيه المهني، والسياسات الوطنية القائمة على استشراف المستقبل. لا يكفي أن نُخبر الشباب بهذه التخصصات، بل يجب أن نُشركهم في فهم دوافع السوق، وأن نُهيّئ لهم بيئة تعليمية ومهنية محفّزة على اتخاذ القرار الواعي.
الخطوة الأولى تبدأ بتوفير بيانات دقيقة ومحدّثة عن احتياجات السوق الوطني، وربطها بمحتوى تعليمي ومهني يُبنى على التكامل. ومن المهم كذلك الاستثمار في أنشطة التوجيه المهني منذ المراحل الدراسية المبكرة، بما يضمن تشكيل وعي مهني طويل الأمد لدى الطالب.
ومن المهم هنا أن نشيد بالجهود الرائعة التي تبذلها وزارة التربية والتعليم والتعليم العالي، لاستباق هذه الاحتياجات، والعمل من أجل إعداد الأجيال المقبلة لهذه التحوّلات. ونحن في مركز قطر للتطوير المهني عضيد لجهود الوزارة وسائر شركاء التوجيه والتطوير المهني، من مؤسسات وطنية، وممارسين للتوجيه المهني، وسوق العمل، الرامية لسدّ الفجوة بين توجهات الشباب ومخرجات المنظومة التعليمية واحتياجات سوق العمل. وكنا قد نظمنا، مطلع هذا العام، جلسة حوارية بالشراكة مع وزارة التربية والتعليم والتعليم العالي، جمعت شركاء التوجيه المهني، لإرساء الأسس المطلوبة لتشكيل منظومة وطنية للتطوير المهني، تنسق الجهود، وتخدم الهدف المتمثل بالتكامل في توجيه الشباب منذ الطفولة نحو ما فيه تحقيق لطموحاتهم ولاحتياجات الدولة على حد سواء.
قرارات مهنية مستنيرة
◆ حدثنا عن أبرز برامج التطوير المهني التي ينظمها المركز للطلاب؟
¶ هدفنا في مركز قطر للتطوير المهني هو تمكين الشباب من اتخاذ قرارات أكاديمية ومهنية مستنيرة، من خلال الإرشاد والتوجيه والمعلومات الدقيقة. لذا نعمل على تقديم باقة متكاملة من الخدمات، تشمل جلسات استشارات مهنية تخصصية عبر برنامج «الدِليلة: مرشدك المهني»، الموجه للشباب من المراحل العمرية والمهنية، ومجموعة برامج المعايشة المهنية مثل «الموظف الصغير» الموجه للأطفال، يعقبه «القرية المهنية» المخصصة لطلبة الإعدادية والثانوية، ومن ثم برنامج «مهنتي – مستقبلي» الذي يتيح للشباب التعرّف على بيئات العمل الواقعية، واكتساب خبرات ميدانية عبر المعايشة المهنية.
كما نحرص على توعية الطلبة من خلال منشورات نوعية مثل مجلة «دليلك المهني»، أول مجلة متخصصة بالتطوير المهني في قطر والمنطقة، والتي تسلط الضوء على مسارات النجاح في الدولة. ولا نغفل عن دعم أولياء الأمور والمرشدين المهنيين، عبر تدريبهم وتمكينهم للقيام بدورهم في توجيه الأبناء. كما نعمل على تحديث «دليل التخصصات»، ليكون مرجعًا للخيارات الأكاديمية الجامعية داخل دولة قطر.
وكما أن برامجنا تعكس اهتمامنا بتعزيز دور أولياء الأمور كالمرشدين المهنيين الأوائل لأبنائهم، فإننا نعمل كذلك على دعم وتطوير قدرات المرشدين الأكاديميين والمهنيين في المدارس، وسنعلن قريبًا عن انطلاق نسخة عام 2025 من «ملتقى المرشدين المهنيين»، الذي يهدف إلى تشكيل منصة للتواصل، وتبادل الخبرات والمعارف بين المرشدين الأكاديميين والمهنيين في الدولة، وتعزيز مهاراتهم، وضمان تأهيلهم لتوجيه الطلبة بكفاءة وفعالية.
كافة جهودنا تنطلق من رؤية تؤمن بأن التطوير المهني ليس مرحلة لاحقة، بل رحلة مدى الحياة، تبدأ في عمر مبكر، وتُبنى على أسس علمية وأفضل الممارسات العالمية التي تواكب تطلعات شبابنا واحتياجات سوق العمل القطري.