الشاعر د. آدي ولد آدب: بدأت الصوم في سنوات الجفاف العجاف ورياح السموم

alarab
الملاحق 10 مارس 2025 , 01:25ص
محمد عابد

أذان المغرب كان لحظة الإنقاذ من الموت والتحلل من الالتزام الصعب
واجهنا شظف الحياة قديما بالرضا والكرم والإيثار وتقاسم الموجود
نصوص ديوان «صوات القوافي» تستلهم فلسفة الصوم والبعد الروحي له

 

بين قسوة المناخ المستمدة من الطبيعة الجغرافية لموريتانيا وصلابة الإرادة المبنية على التربية الإسلامية، بدأ الدكتور آدي ولد آدب الشاعر والأكاديمي في خوض غمار الصيام في رمضان الذي كان قاسيا في ظل الشمس الحارقة، ورغم صعوباتها إلا أنه وصفها بـ «أيام الزمن الجميل».
في حديثه لـ «العرب»، يستعيد آدي ولد آدب الخبير اللغوي في معجم الدوحة التاريخي ذكرياته عن الصوم في السبعينيات والثمانينيات، حين لم يكن الالتزام خيارا، بل إرثا عائليا وحتمية اجتماعية، مؤكدا أنه لم يكن مقبولا أن يحيد ابن العائلة العلمية الدينية عن طريق التدين، حتى لو رأى من يسرق جرعات ماء خلال المضمضة، بل كان التحدي في الصمود رغم العطش، إثباتا للرجولة التي رسختها الأمثال الشعبية.
لكن الصوم عند «ولد آدب» لم يكن مجرد تجربة جسدية، بل كان إلهاما شعريا، انعكس في ديوانه «صوات القوافي»، حيث تجلى البعد الروحي لفلسفة الصيام. وخلال هذا الحوار يروي لنا «ولد آدب» كيف صاغت التجربة شخصيته؟ وكيف تجلت في قصائده؟

◆ كيف كانت تجربتك الأولى مع الصيام؟ هل تتذكر تفاصيل ذلك اليوم؟
¶ هذا السؤال يعود بي إلى عهد قديم، لا أستطيع أن أطلق عليه أيام الزمن الجميل، ولكني أيضا لا أستطيع أن أصفه بعدم الجمال، فالنسبية حاضرة هنا.

◆ كم كان عمرك حين صُمت لأول مرة؟ وما الذي دفعك لتجربة الصيام في ذلك الوقت؟
¶ أظن أني صمت رمضاني الأول وأنا ابن 17- 18 سنة، ولا أذكر أني كنت من الأطفال الذين يحاولون الصوم قبل البلوغ، لأن ذلك ربما كان مدرجا في الكذب والغش والاحتيال التي تبعدنا تربيتنا عن الاقتراب منها، بينما كان بعض الأصدقاء يتسرعون في دعوى البلوغ لخوض تجربة الصوم، وهكذا كنت في رمضاني الأول الصائف القائظ المترمض لا أكاد أتم يومي إلا بالرشرشة على جلدي وثوبي، لتحول نداوة القطرات ريح السموم إلى نسيم لطيف دقائق معدودة، وكان عزائي أن الكبار يضطرون إلى ذلك، بل ربما اضطرهم العطش الشديد إلى قطع صومهم بالشرب في نهار رمضان خوفا من الموت، ثم يواصلون صومهم إلى المغرب، ويقضون ديون رمضان في فترة البرد، ولا أنسى أن الصائم في تلك الفترة لم يكن يفكر في شيء أكثر من ازدراد الماء عند الفطر بجرعات متلاحقة، حتى يتضلع، غير مفكر في لبن ولا تمر، لأن العطش قاطع للرقاب، وليس بعده في قوة التأثير إلا دًوَاخُ افتقاد الشاي الأخضر، الذي يدمنه جل الموريتانيين.

صعوبات مناخية
◆ هل واجهت صعوبات خلال أول صيام لك؟ وكيف تغلبت عليها؟
¶ نعم واجهت كل الصعوبات الظرفية والمناخية، والاقتصادية التي كانت تكتنف رمضانات تلك الفترة، ولكننا نهيأ منذ نعومة أظفارنا على مقاساة مشقات الحياة، وتحمل مكابدتها برجولة سابقة لأوانها، ففي الرحلات الطويلة كان أهلنا يمنعوننا من الشرب خلال فترة الرحيل مهما طالت، كما يلزموننا طيلة الرحلات بالمشي حفاة الأقدام غالبا، حتى لو كان الركوب والانتعال متاحا لبعضنا، كما أن الأطفال الذكور والرجال، يتعودون على تناول وجبة واحدة يوميا، حتى ولو توافر الأكل لدى البعض.

◆ من الذي شجعك أو حفّزك على الصيام لأول مرة؟ وكيف كان رد فعل العائلة؟
¶ أنا ابن أسرة علمية متدينة، ذات مشيخة روحية في مجتمعها البدوي المترحل، ولم يكن- تربويا- يُسمح لي بغير الالتزام الديني، والأخلاقي، دون تهرب ولا مراوغة، كما يفعل بعض الأطفال الآخرين.
 
◆ ما أكثر لحظة لا تزال عالقة في ذاكرتك من أول رمضان صمته؟
¶ هي لحظة ما قبل غروب الشمس، حيث تظل العيون معلقة بذلك القرص الأحمر الملتهب الجانح للسقوط في البحر، كما كنا نزعم يومها، حيث يكون هناك تذبذب للبصر والروح بين نظرة إلى الشمس، ونظرة إلى القدح الخشبي الأسود الممتلئ بماء الشنة الزلال، ونظرة ثالثة، إلى مواعين الشاي.

السرقة والمضمضة
◆ هل كنت تخطط لكسر الصيام سرا في طفولتك أم التزمت به بالكامل؟
¶ أبدا.. لم أكن أفكر في غير الالتزام الصارم، مع مشاهدتي لمن يسرقون جرعات خفيفة خلال مضمضة الوضوء.

◆ كيف كان شعورك عند سماع أذان المغرب لأول مرة بعد يوم طويل من الصيام؟
¶ كانت لحظة الإنقاذ من الموت، ولحظة الإنعاش، ولانتعاش، والتحلل من الالتزام الصعب.

◆ نود التعرف أكثر على أجواء رمضان في بلادكم وطبيعته وسماته؟
¶  خلال رمضاني الأول كنت ابن حي من أحياء البادية الرحل، بين المراعي والمناهل، ومهما كان الغنى فيه فإن الندرة هي السائدة، ففي تلك الأيام كان اللحم واللبن والتمر والشاي، والماء البارد، ترفا لا يحلم به الأغلبية.. ومع ذلك كان الكثيرون يستشعرون الترف في ذلك الشظف، حيث الرضا، والكرم، والإيثار، وتقاسم الموجود، والقناعة عن المفقود قيم مهيمنة على السلوك العام.
ورغم أن رمضان في تلك الفترة لم يكن يحل إلا في فصل الصيف خلال سنوات الجفاف العجاف التي كانت تجتاح موريتانيا طيلة عقدي السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، حيث تشح مناهل المياه، وتتصحر المراعي، وتتناوح رياح السموم الحارة، وتبعد مراكز الميرة.

الصوم بدون غش
◆ كيف أثرت تجربة الصيام الأولى على فهمك لشهر رمضان ومفهوم الصبر والعبادة؟
¶ لقد كنا نحن أطفال تلك الفترة نتسابق إلى البرهنة على بلوغنا سن الرجولة، وجاهزيتنا لصوم رمضان، الذي يعتبر هو الامتحان الأول لدخول دائرة الرجال، وتحمل مسؤولياتهم الصعبة، فأمثالنا الحسانية تقول لنا: «بو صوم من القوم، ول ما تل عليه لوم»، وقد كان وسطنا المتعلم المثقف- رغم بداوته- يفرض علينا الدخول في الصوم بدون غش، لا مراوغات، وقد كان كل واحد منا يستقبل صومه الأول بكل تصميم وتحد لمصاعب الجوع، والعطش، والحر التي لا شك أنه قد تمرس بها قبل ذلك في مدرسة الحياة البدوية القاسية، وتربَّي هناك على التحمل، والصبر، والمكابدة، لم تكن التجربة تخلو من استلهام روح الشهر الكريم، ودروس الإخلاص في التعبد لله، والتضحية الجسدية والروحية والأخلاقية، من خلال الإحساس بمعاناة الفقراء، عبر مشاركتهم الجوع والعطش القسري خلال شهر كامل.

◆ واليوم وأنت الشاعر المعروف كيف كانت علاقتك مع رمضان وهل هناك إلهام خاص؟
¶ ضمن دواويني الثمانية المنشورة، أفردت ديوان «صوات القوافي»، لهذا البعد الروحي، وفيه نصوص تستلهم فلسفة الصوم، وتستنطقها شعوريا، وشعريا، وقد شاركت عدة مرات في برامج أدبية تتناول رمضان، في وسائل إعلام عربية أو موريتانية.