

احتفلت شبكة الجزيرة الإعلامية أمس الموافق الأول من نوفمبر بمرور 29 عاماً على تأسيس قناة الجزيرة الإخبارية، التي انطلقت من الدوحة عام 1996 لتعيد تعريف الإعلام العربي والعالمي، وتصبح نموذجاً للصحافة الجريئة والمهنية المستقلة. منذ بداياتها، وضعت الجزيرة نفسها في طليعة الإعلام الحر، مبتعدة عن الرقابة المباشرة للحكومات لتقدم نموذجا إعلاميا راقيا يعتمد على شعار “الرأي والرأي الآخر”، الذي فتح أبواب النقاش والشفافية في فضاء عربي كان يهيمن عليه الخطاب الرسمي لفترة طويلة.
قبل تأسيس الجزيرة، كانت القنوات الفضائية العربية إما ملكية حكومية أو خاصة تفتقر إلى الاستقلالية، وكان المشهد الإعلامي يفتقر إلى الجرأة في نقل الأخبار والتحليلات. جاء تأسيس الجزيرة في لحظة فارقة عام 1996 لتبدأ بثها بساعات محدودة قبل أن تتحول سريعاً إلى البث المتواصل على مدار 24 ساعة. وقد ساهم دعم دولة قطر ورؤية القيادة الإعلامية في منح الجزيرة منصة قوية للانطلاق وتحقيق انتشار واسع، مما جعلها منافساً حقيقياً لشبكات مثل CNN وBBC.
الريادة في الإعلام العربي
كان للجزيرة دور محوري في تغيير المشهد الإعلامي العربي، فقد فتحت المجال أمام النقد السياسي والاجتماعي، وأتاحت للمعارضين والمنشقين والشخصيات المثيرة للجدل التعبير عن آرائهم على الهواء، مما خلق فضاء عربياً عاماً للنقاش لأول مرة. من خلال برامجها الحوارية مثل “بلا حدود” و”شاهد على العصر”، منحت القناة المشاهدين منصات لمناقشة القضايا الحساسة بصراحة غير مسبوقة.
أحداث ساخنة
تميزت الجزيرة بوجود مراسليها في قلب الأحداث الساخنة، حيث غطت الحروب والنزاعات الإقليمية والدولية بشكل حي ومباشر. خلال حرب أفغانستان عام 2001، كانت الجزيرة المصدر الوحيد للمشاهد التي خرجت من أفغانستان، فيما نقلت حرب العراق عام 2003 صور المعارك من داخل بغداد، ما منحها مصداقية عالمية واسعة رغم توتر العلاقات مع بعض الأطراف العربية والغربية.
التأثير على الحراك السياسي والاجتماعي
لعبت الجزيرة دوراً مؤثراً خلال موجة الربيع العربي، حيث وفرت منصة للمحتجين لنقل مطالبهم وصور حراكهم، مؤكدة شعارها “صوت لمن لا صوت له”، ومساعدة الجماهير على متابعة الأحداث والتحليل السياسي بحرية.
شبكة إعلامية عالمية
لم تتوقف الجزيرة عند القناة الأم، بل تحولت إلى شبكة إعلامية عالمية متعددة المنصات. أُطلقت الجزيرة الإنجليزية عام 2006 لنقل الرواية العربية إلى الجمهور الغربي، إلى جانب قناة الجزيرة الوثائقية، والجزيرة مباشر، وقنوات إقليمية مثل الجزيرة بلقان. كما أنشأت معهد الجزيرة للإعلام لتدريب وتأهيل الكوادر الصحفية، ومركز الجزيرة للدراسات لإثراء البحث والتحليل. وأطلقت الشبكة موقع الجزيرة نت عام 2001 ومنصات رقمية متقدمة مثل AJ+ والبودكاست وContrast، مواكبة التحول الرقمي وتفاعل الشباب مع الإعلام.
فلسطين والتصدي للسردية المضللة
احتلت القضية الفلسطينية مكانة مركزية في سياسة التغطية الإعلامية للجزيرة، متجاوزة حدود التغطية الإقليمية لتصبح الناقل الأبرز للرواية الفلسطينية إلى الجمهور العالمي. تميزت الجزيرة الإخبارية بتواجد مراسليها في المدن والقرى الفلسطينية المحتلة وقطاع غزة، حتى في أوقات الحصار والتصعيد العسكري، ما أتاح نقل الصورة الكاملة بعيداً عن الرقابة. كما وفرت القناة مساحة واسعة للساسة والمحللين والمواطنين الفلسطينيين للتعبير عن واقعهم، مع التركيز على البعد الإنساني لمعاناة المدنيين، ما ترك أثراً مباشراً على المشاهد العربي والأجنبي على حد سواء. ولعبت الجزيرة الإنجليزية دوراً أساسياً في إيصال هذه الرواية إلى صانعي الرأي والسياسيين في الغرب، من خلال برامج استقصائية وثائقية مثل “Fault Lines” و”101 East”، ما ساهم في تشكيل وعي مغاير لدى الجماهير الغربية وتحريك الرأي العام في أوروبا وأمريكا الشمالية. كما اعتمدت الجزيرة الوثائقية ووحدة التحقيقات على إنتاج أفلام وتقارير استقصائية توثق الانتهاكات والجرائم، مساعدة المنظمات الحقوقية على المساءلة الدولية عن جرائم الحرب. واستغلت المنصات الرقمية مثل AJ+ والبودكاست لغة تفاعلية ومحتوى قصيرا متعدد اللغات للوصول إلى الشباب عالمياً، مستخدمة الرسوم البيانية والوسائط المتعددة لتبسيط الحقائق المعقدة حول فلسطين والوضع الإنساني
أسست الجزيرة نموذجاً لتأثير الإعلام العربي العالمي المعروف بـ”The Al Jazeera Effect”، حيث كسرت احتكار الإعلام الغربي وقدمت منظوراً “من الجنوب” للقضايا العالمية، وأتاحت صوتاً لمن لا صوت لهم. أثرت تغطية الجزيرة على السياسات الداخلية والخارجية وحركة الرأي العام العالمي من خلال نقل النزاعات الكبرى والحروب بشكل مباشر.