القدوة الحسنة تلعب دوراً محورياً في تشكيل تصوّرات الشباب حول النجاح
الاستفادة من الآخرين لا تُضعف من قيمة الذات.. والتميز الحقيقي عملية تراكمية
السعي إلى مسار «فريد» قد يفضي إلى مسارٍ غير مفيد لسوق العمل
«هذه الحالة» قد تؤدي إلى الابتعاد عن بيئات التعلّم الجماعي أو البرامج المشتركة
أكد السيد صالح عبد الله البلم - مسؤول التطوير المهني، مركز قطر للتطوير المهني – أن فخ التميز، هو حالة من الانعزال الذهني والمهني التي تدفع الفرد إلى رفض النماذج الناجحة أو التوجيه الجماعي، ظنًا منه أن الاستفادة من الآخرين تُضعف من قيمة الذات، موضحاً أن أخطر ما في الأمر أن يتم اختزال النجاح في شكل ضيق، وتُغفل حقيقة أن التميز الحقيقي عملية تراكمية تحتاج إلى انفتاح وتفاعل مع الآخرين، لا انعزال وتمرد. وأشار في حوار مع «العرب» إلى أن «فخ التميز» يظهر بشكل واضح عند شريحة كبيرة من طلاب الجامعات والخريجين الجدد، وأن السعي إلى مسار «فريد» حتى لو لم يكن واقعيًا قد يفضي إلى مسارٍ غير مفيد لهم أو لمجتمعهم وسوق العمل. وأوضح أن فخ التميز يحمل في طياته مخاطر متعددة تتجاوز الجوانب المهنية إلى الجوانب النفسية والاجتماعية على المستوى المهني، ومن أبرزها فقدان الفرص بسبب المبالغة في الشروط الذاتية، كما أن هذه الحالة تؤدي إلى عزلة مهنية، بالابتعاد عن بيئات التعلّم الجماعي أو البرامج المشتركة، فضلا عن أن هذا الفخ يغذي شعورًا دائمًا بعدم الكفاية، مع المقارنة بصور مثالية.. وإلى نص الحوار..
◆ نلاحظ أن الشباب اليوم يعيشون هوسًا حقيقيًا بالتميّز والتفرّد في ظل الانتشار الواسع لشعارات مثل «كن مختلفًا» و«اصنع طريقك بنفسك»، من أين يأتي هذا الدافع القوي للتميّز؟
¶ لدى كلّ منا رغبة بأن نُرى، وأن تبرز إنجازاتنا على المستوى الفردي. وهذه الشعارات تحمل نداءً جذابًا للذات، وتلامس طموح الشباب هذا، خصوصًا في المراحل الانتقالية الهامة كالانتقال من الحياة الأكاديمية إلى المهنية، والترقّي في المسار المهني، وغيرها. فهي تعبّر عن رغبة طبيعية في الاستقلال والتميّز والابتكار. لكن المشكلة لا تكمن في الرسالة نفسها، بل في فهمها وتطبيقها خارج السياق الواقعي.
فعندما يتحوّل التفرد إلى عبء نفسي وهدف قائم بحد ذاته، ويشعر الشاب أن عليه أن يكون استثنائيًا منذ اللحظة الأولى، يصبح هذا الطموح عائقًا بدلًا من أن يكون دافعًا. هنا نصل إلى ما نُطلق عليه في الإرشاد المهني «فخ التميز»، وهو حالة من الانعزال الذهني والمهني التي تدفع الفرد إلى رفض النماذج الناجحة أو التوجيه الجماعي، ظنًا منه أن الاستفادة من الآخرين تُضعف من قيمة الذات. وهذا أخطر ما في الأمر: أن يتم اختزال النجاح في شكل فرداني ضيق، وتُغفل حقيقة أن التميز الحقيقي عملية تراكمية تحتاج إلى انفتاح وتفاعل مع الآخرين، لا انعزال وتمرد.
◆ كيف يظهر فخ التميز في سلوكيات الشباب؟ وهل هناك أنماط متكررة تلاحظونها في طلبة الجامعات أو الخريجين الجدد؟
¶ نعم، تظهر هذه الظاهرة بشكل واضح عند شريحة كبيرة من طلاب الجامعات والخريجين الجدد. غالبًا ما يبدأ الأمر بنوايا طيبة: الرغبة في ألا يكون الشاب نسخة مكررة من غيره. لكنه سرعان ما يتحوّل إلى رفض صريح أو ضمني لأي مسار تقليدي. والشاب الذي يقع في هذا الفخ يبدأ بالشعور أن الطرق المعروفة كالعمل في مؤسسات الدولة، أو القطاعات الشائعة، لا تليق بطموحه، فيسعى إلى مسار «فريد» حتى لو لم يكن منطقيًا أو واقعيًا. بل وفي بعض الأحيان، يفضي هذا بالشاب إلى اتباع مسارات غير منتجة بالضرورة، لمجرّد أنها توجه ناشئ وجديد في السوق المحلي، ويجد نفسه بين العشرات أو المئات ممن فكروا بنفس الطريقة، وتسابقوا نحو مشروعٍ أو مسارٍ غير مفيد لهم أو لمجتمعهم وسوق العمل.
كما نلاحظ ميلًا لدى من يعانون من هذا الشعور الضاغط إلى تجنّب النصائح المهنية، وعدم الاستفادة من تجارب الزملاء أو المرشدين، بالإضافة إلى تأجيل اتخاذ القرار المهني بسبب البحث المستمر عن شيء «مختلف». وتكمن الخطورة هنا في أن الفرد يفقد البوصلة المهنية، ويدخل فيما يمكن تسميته «الهوية المهنية المعلّقة»، فيبقى عالقًا بين الرغبة في التميز والخوف من الوقوع في النمطية، دون أن يحقق أيًا منهما فعليًا.
◆ من وجهة نظركم كخبراء، ما المخاطر الحقيقية لفخ التميز على مستقبل الشاب المهني والنفسي؟
¶ فخ التميز يحمل في طياته مخاطر متعددة، تتجاوز الجوانب المهنية إلى الجوانب النفسية والاجتماعية. على المستوى المهني، أهم هذه المخاطر هي فقدان الفرص بسبب المبالغة في الشروط الذاتية. فالشاب الذي يرفض كل ما هو تقليدي أو متاح قد يفوّت فرصًا ممتازة للنمو والتطور، لمجرد أنها لا «تبدو» متميزة من الخارج. كما أن هذه الحالة تؤدي إلى عزلة مهنية، إذ يبتعد الفرد عن بيئات التعلّم الجماعي أو البرامج المشتركة، ما يُضعف مهاراته التواصلية وقدرته على بناء شبكة علاقات مهنية قوية.
أما نفسيًا، فيغذّي هذا الفخ شعورًا دائمًا بعدم الكفاية، لأن الفرد يقارن نفسه بصور مثالية، غالبًا ما تكون غير واقعية، ويشعر أن كل ما يفعله لا يرقى إلى مستوى «التميز» الذي رسمه لنفسه. هذا الشعور قد يتحوّل إلى إحباط، وتردد في اتخاذ القرارات، وقلق مزمن حول المستقبل. إننا لا نقلل من قيمة الطموح، لكننا نُحذّر من تحوّله إلى عائق، بدلًا من أن يكون وقودًا للتقدّم.
◆ هل لديكم أمثلة واقعية أو أنماط متكررة من الحالات التي تعاملتم معها في مركز قطر للتطوير المهني تعكس هذه الظاهرة؟
¶ بالطبع، نتعامل مع نماذج حقيقية من الشباب الذين وقعوا – بدرجات متفاوتة – في فخ التميز. أحد الأنماط الشائعة التي نلاحظها هي الطالبة المتفوقة أكاديميًا التي ترفض دخول مجالات مأهولة ظنًا أنها لا تعبّر عن شغفها، لكنها في الوقت ذاته لا تملك بدائل عملية. أو طالب يتنقل بين أكثر من تخصص أو فرصة تدريبية دون استقرار، لأنه يبحث دائمًا عن «الخيار المثالي» الذي يعكس «تفرده»، لكنه لا يجده، فيتراجع باستمرار.
من المظاهر المتكررة لهذه الظاهرة أيضًا، ملاحظة أن عددًا من الشباب يُدخِلون معيار «الاختلاف عن العائلة» كعنصر رئيسي في اختيار تخصصهم الجامعي. فيسعون إلى دراسة تخصصات لم يسبق لأحد من أفراد عائلاتهم اختيارها، لا بدافع القناعة أو التقييم الموضوعي، بل بدافع التميز الظاهري والابتعاد المتعمَّد عن المسارات التقليدية. ورغم أن الطموح للتميّز أمر محمود، إلا أن ربط الاختيار الأكاديمي برغبة في «كسر النمط» دون رؤية واضحة قد يؤدي إلى اختيارات غير متزنة، وغير مستدامة على المدى الطويل.
في كثير من هذه الحالات، لا يكون النقص في القدرات، بل في المرونة الذهنية والقدرة على التكيّف مع الواقع. ومن خلال برامج الإرشاد المهني المباشرة، كبرنامج «الدِليلة» للإرشاد الفردي التخصصي، نساعد هؤلاء الطلبة على إعادة تقييم تصوراتهم حول النجاح والتميز، ونرافقهم في عملية تحويل الرؤية الذاتية من نمط «كل شيء أو لا شيء» إلى مقاربة تدريجية ومتزنة تسمح لهم بالتقدم بثقة، دون ضغوط.
◆ ما دور مركز قطر للتطوير المهني في معالجة هذه الظاهرة؟ وكيف تساعدون الشباب على التعامل مع فخ التميز بوعي؟
¶ نعي تمامًا في مركز قطر للتطوير المهني أن الشباب لا يحتاج فقط إلى المعلومة، بل إلى مساحة آمنة لإعادة التفكير في قناعاته المهنية. ولهذا، تدمج برامجنا – مثل «الدِليلة» - بين اكتشاف الذات وفهم الواقع المهني. ولا نطلب من الطالب أن «يتّبع» مسارًا معينًا، بل نوجهه إلى استكشاف النماذج القائمة، وتحليلها، والتعلّم منها، ثم بناء مساره الشخصي بطريقة متزنة. ونُركز دومًا على مفاهيم مثل التعلّم بالمحاكاة والمعايشة، وبناء الهوية المهنية من خلال التجريب، والتفاعل مع المهنيين من مختلف القطاعات، عبر مجموعة برامج المعايشة المهنية التي نقدمها، والتي يمكن للجميع الاطلاع عليها عبر زيارة موقعنا الرسمي.
كما نعمل باستمرار على تعزيز ثقافة الحوار المهني مع الأسر والمعلمين، لأن معالجة فخ التميز لا تتم في الفراغ، بل داخل بيئة داعمة ومتعاونة. كما نقدم ورش عمل مختلفة، تُمرّن الشباب على مهارات التفكير النقدي والتخطيط الواقعي، بما يمكّن الطالب من موازنة طموحه مع إمكاناته ومعطيات السوق. فهدفنا، بالنهاية، هو أن يكون الطالب قادرًا على أن يُضيف بصمته ضمن السياق، لا أن يعزل نفسه خارجه.
كما نؤمن في المركز بأن القدوة الحسنة تلعب دورًا محوريًا في تشكيل تصوّرات الشباب حول النجاح، وفي توجيههم نحو اختيارات مهنية واقعية وملهمة. فالشاب لا يبحث فقط عن نصيحة، بل عن نموذج يُشبهه، ويعكس تحدياته، ويُجسّد أمامه إمكانية النجاح بطريقة أصيلة ومتزنة. ومن هذا المنطلق، تأتي مجلة «دليلك المهني» التي يصدرها مركز قطر للتطوير المهني، لتكون منصة تُعرّف الشباب على شخصيات قطرية وعربية وعالمية مرّت بتجارب مهنية حقيقية، ونجحت في تحقيق التوازن بين الطموح والواقع. لا نُقدّم هذه الشخصيات كأيقونات مثالية أو خارقة، بل كنماذج إنسانية يمكن التعلّم منها واستلهام الدروس من مسيرتها. فالمجلة تُسهم في إعادة تعريف النجاح، وتُرسل رسالة واضحة مفادها أن التميّز لا يعني الانعزال عن الواقع أو السعي وراء التفرّد المُطلق، بل يكمن في أن يكون للإنسان أثرٌ نابع من ذاته، ومُنسجم مع مجتمعه.
◆ كيف يمكننا إعادة تعريف التميز في ظل هذا السياق؟ هل هناك رؤية جديدة يجب أن يتبناها الطالب أو المجتمع؟
¶ بالتأكيد، أولى خطوات الحل تبدأ بإعادة تعريف التميز نفسه. التميز لا يعني الرفض المطلق للنماذج، ولا يعني أن تسلك طريقًا جديدًا لم يسلكه أحد. بل هو أن تضيف قيمة لما هو موجود، وأن تُطوّر، وتحسّن، وتبتكر ضمن السياق، وليس خارجه بالضرورة.
ليس من العيب أن يبدأ الطالب من طريق معروف. العيب هو أن يرفضه لمجرد أنه معروف. والتميز ليس في البدايات المذهلة، بل في الاستمرارية والتأثير على المدى البعيد. فالمجتمعات لا تُبنى على الأفراد لوحدهم، بل على تفاعلهم وإلهام بعضهم البعض. لهذا، ندعو الشباب إلى أن لا يبحثوا عن التميز كغاية منفصلة، بل كعملية مستمرة تُبنى بالتراكم، وبالتعلّم، وبالعمل مع الآخرين. هذا المفهوم يحتاج أن يُغرس في الوعي الجماعي، وأن يُدعَم من خلال المدرسة، والأسرة، والإعلام. فعندما يفهم الطالب أن التميز الحقيقي هو في النتائج لا في الشعارات، يكون قد تجاوز أخطر مراحل فخ التميز.
◆ نصيحة أخيرة توجهها لكل شاب أو شابة يشعر أنه عالق في هذا الفخ، أو يخشى ألا يكون «مختلفًا» بما يكفي؟
¶ نصيحتي الأولى والأخيرة لجميع الشباب هي: لا تجعلوا التميز عبئًا عليكم. لا تقيسوا نجاحكم بمدى بعدكم عن الآخرين، بل بمدى قربكم من ذواتكم، وقيمكم، وواقعكم. ليس مطلوبًا منكم أن تكونوا مختلفين لتكونوا ناجحين. المطلوب أن تكونوا حقيقيين، ومرنين، ومنفتحين على التعلّم. خذوا من تجارب غيركم ما ينفع، وابدأوا من حيث انتهى الآخرون، ثم أضيفوا لمستكم.
لا تظنوا أن طلب المساعدة ضعف، ولا أن تقليد الناجحين فشل. بل على العكس، هذه علامات على وعي مهني عالٍ. التميز لا يتحقق بالصوت العالي، بل بالتأثير العميق، فلا تسعَ لأن تكون الأفضل فقط، بل لأن تكون الأجدر، والأكثر نفعًا. وعندما تنجح في ترك أثر إيجابي فيمن حولك، فهذا هو التميز الذي يدوم. إن فخ التميز لا يُكسر بالعناد، بل بالحكمة والفهم العميق لدورك ضمن المنظومة الأكبر. هذا هو الطريق إلى النجاح الحقيقي، والتميّز الذي يُحتَرم ويُحتفَل به.