اختيارات بديعة للعلامة الشيخ عبدالله بن زيد آل محمود

alarab
محليات 28 يناير 2013 , 12:00ص
بقلم الشيخ: عبدالله البصير
أهداني الابن البار الشيخ عبدالرحمن بن عبدالله بن زيد آل محمود سفرا قيما عن والده الشيخ العلامة عبدالله بن زيد آل محمود يرحمه الله. والكتاب الذي حرك مكنون الشوق في نفسي للكتابة عن الشيخ بن محمود، كتبه هو يرحمه الله، وتولى ابنه الشيخ عبدالرحمن جمعه والإشراف على تبويبه وتنسيقه وتسميته. وأتفق مع ما قاله الشيخ عبدالرحمن في تقديمه للكتاب: «لو صدر كتاب (جواهر الشعر) في حياته -يرحمه الله- لكان أحسن هدية، وأعتبر هذا الكتاب الذي استغرق الكثير من الجهد والوقت وفاء مني لذكرى إنسان كان له تأثير كبير على كل من يحيطون به». يكفي أن أقول عن كتاب (جواهر الشعر) ما قاله الأديب السعودي الكبير الشيخ عبدالله بن خميس -أحد أصدقاء الشيخ بن محمود-: «هذا السفر الرائع الذائع الجميل، وجدته بمنزلة الواسطة من العقد، وبمكان الدرة من التاج، أو كمثل النابغة في سواد الملاء. إنه فريد الشعر ووحيده». رحل الشيخ بن محمود عن عالمنا قبل 15 عاما، وترك لنا ميراثا علميا فريدا يضاف إليه الكتاب الجديد. وبجوار الميراث العلمي خلف الشيخ بن محمود من بعده ذرية صالحة من الأبناء والأحفاد، وكل أبناء الشيخ خيار من خيار، لكن للشيخ عبدالرحمن -فيما أرى- فضل السبق على إخوانه في رضا الوالد يرحمه الله، في نشر تراثه ومؤلفاته، وتعريف الأجيال الجديدة به. وأنتهز مناسبة صدور الكتاب لأشكر الشيخ عبدالرحمن عما أسدى لوالده من فضل، وما أهدى للأجيال الشابة من تعريف بأحد العلماء الأعلام، راجيا أن ينتفعوا بعلمه ويقتفوا أثره، كما انتفعنا بعلمه في حياته يرحمه الهن. إن جهد الشيخ عبدالرحمن في إعداد الكتاب على مدى 3 سنوات يذكر فيشكر. وأقول له غير مجامل: «فزت برضا الله ثم رضا والدك». 37 عاما مع شيخي وليسمح لي الشيخ عبدالرحمن بأن أزاحمه في حب شيخي يرحمه الله، بأن أستعرض بعضا من مآثره، وأروي بعض مواقفه التي تجسد صدقه وتمسكه بكلمة الحق، لعلي أفوز برضا الله ثم رضا شيخي. لقد تأثرت بسيرة الشيخ بن محمود أكثر من غيري لأني عايشته عن قرب طوال أكثر من 37 عاما، ورأيت أفعاله التي كانت تطبيقا لعلمه وما كان يدعو الناس إليه. وسأظل أكتب وأردد إعجابي، وأتمنى وأدعو أن يكون الشيخ قدوة للرجال الذين لا تأخذهم في الحق لومة لائم، ولا يركنون للتقليد الجامد الأعمى، ويجأرون بالحق ويجاهرون به، وأوقن بأن حسن النية وسلامة المقصد وتلمس مقاصد الشريعة السمحة، سوف يكتب لاجتهادات الشيخ الخلود والبقاء مهما طال الزمن. ذكرتني سيرة الشيخ التي قرأتها في الكتاب بما رأيته وعايشته بنفسي خلال علاقة امتدت أكثر من 37 عاما مع الشيخ يرحمه الله. إن الدارس لسير الصحابة والراشدين رضوان الله عليهم، والعارف بسيرة الشيخ بن محمود، يجدها مطبقة في أقواله وأعماله. ويطيب لي في هذا المقام أن أهدي إلى محبيه وعارفيه بشكل خاص وإلى كل مسلم بشكل عام بعضا من أقواله وآرائه وكأنها قبس من مشكاة النبوة، فيها الحكمة الناصعة والبيان الرائع والنور الإلهي والسجع الجميل الممتع. فمما أحفظه عنه يرحمه الله قوله: «إن دين الإسلام هو دين السلام والأمان، دين صالح لكل زمان ومكان، قد نظم حياة الناس أحسن نظام بطريق العدل والإنصاف والإتقان. {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا} أي صدقا في الأقوال وعدلا في الأحكام. فلو أن الناس جميعا آمنوا بهذا الدين وعملوا بتعاليمه ووقفوا عند حدود مراسيمه، لصاروا به سعداء، ولما حصل بينهم بغي ولا طغيان ولا اعتداء؛ لأنه {يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}، فهو دين سيادة وسعادة». وقوله يرحمه الله: «إن إدمان رؤية المنكرات تقوم مقام ارتكابها في سلب القلوب نور التمييز والإنكار، لأن المنكرات متى كثر على القلب ورودها وتكرر على العين شهودها، ذهبت وحشتها من النفوس شيئا فشيئا، إلى أن يراها الإنسان فلا يميز بفكره أنها معاص، ولا ينكر بعقله أنها منكرات، وذلك لسلب القلوب نور التمييز والإنكار على ما قيل: إذا كثر الإمساس قل الإحساس». وهكذا كان صاحب نظرية نفسية وتربوية. بحر زخار عندما أتحدث عن علم الشيخ يرحمه الله فلا أستنكف أن أقول إنه البحر الزخار الذي لا يدرك له قرار، كان -يرحمه الله تعالى- موسوعة في الفقه الإسلامي لا تند عنه شاردة أو واردة فيه. إذا تناول مسألة أتى برأي المذاهب كلها ثم ثنى باجتهاده الذي كان طابعه اليسر على المسلمين ومراعاة الظروف التي وجدت وما يقتضيه العصر في غير تفريط أو ترخيص، وإذا أرشد ووعظ هز القلوب بما يأتيه من قوارص الكلم، وأبكى العيون خشية من الله -جل وعلا- ولا يحلق في أفق بعيد عن واقع الناس، ولا يكتفي بذكر التعاليم جامدة كما يفعل الكثيرون، وإنما يصدر عن واقع الناس، يصفه وصف الخبير المحنك، ثم يقدم له الدواء الناجع من شرع الله عز وجل. فهو قريب من حياة الناس، يأخذ بأيديهم في حنو وعطف إلى العلاج الرباني مهتديا بقول الله جل وعلا: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، كان -يرحمه الله- يشد الناس إليه ولا يبعدهم عنه، ييسر ولا يعسر، يرشد ولا يعيب أو يذم، ليس بطعان ولا هماز، ولا يخاف في الله لومة لائم، عاش -يرحمه الله- محبا للناس جميعا، فنال من الجميع حسن الثناء، وألسنة الخلق أقلام الحق، والناس شهداء الله في أرضه. ومن ذكائه وفهمه وحصافة رأيه ما يخالف به علماء الكلام في تفريقهم بين النبي والرسول، حيث قالوا: إن الرسول هو من أوحي إليه بشرع وأمر بتبليغه، والنبي: هو من أوحي إليه بشرع ولم يؤمر بتبليغه، فكل رسول نبي وليس كل نبي رسول. قال يرحمه الله: «ما الذي تفيده البشرية من وحي لا يؤمر بتبليغه؟ فهذا يعد من الخطأ المتناقل الذي اشتهر على ألسنة الناس في كل بلد فظنوه حقا وهو لا صحة له، إذ لا يوجد نبي أوحي إليه بشرع من الأمر والنهي والفرائض والأحكام والحلال والحرام ثم يصر على كتمانه وعدم بيانه لكون هذا ينافي مقتضى الرسالة والأمانة، فكلهم مكلفون بنشر الدعوة وتبليغ الرسالة»، والصواب معه -يرحمه الله- وهذا ما نعتقده ونطمئن إليه. ولقد جابه الشيخ بن محمود أدعياء الإسلام الذين يدعونه دون القيام بواجباته، فأنزلهم مكانهم من الدين بقوله: «إن كل من يتسمى بالإسلام على الحقيقة فإنه لا بد أن يظهر إسلامه علانية للناس، بحيث يرونه يصلي مع المصلين ويصوم مع الصائمين، يؤدي زكاة ماله إلى الفقراء والمساكين، فيظهر إسلامه علانية للناس بحيث يشهدون له بموجبه، والناس شهداء الله في أرضه. أما من يتسمى بالإسلام وهو لا يصلي ولا يزكي ولا يصوم فلا شك أن إسلامه مزيف مغشوش لا حقيقة له، فهو إسلام باللسان يكذبه الحس والوجدان والسنة والقرآن، ومن ادعى ما ليس فيه فضحته شواهد الامتحان، {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ}». توسع الشيخ بن محمود في مفهوم الربا حيث قال يرحمه الله: «كل مال اكتسب من حرام فهو ربا وعاقبته إلى قلته، كما في حديث ابن مسعود أن النبي عليه الصلاة السلام قال: إن الله قسم أخلاقكم كما قسم أرزاقكم، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب، ولا يعطي الدين إلا من أحب، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه، والذي نفسي بيده لا يكتسب عبد مالا من حرام فيبارك له فيه أو يتصدق منه فيتقبل منه أو يخلفه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار، إن الله لا يمحو السيئ بالسيئ، ولكن يمحو السيئ بالحسن، إن الخبيث لا يمحو الخبيث». وهو -يرحمه الله- أول من عرف الناس منه هنا تفضيل الصدقة على المحتاجين من الفقراء والمساكين على حج التطوع، وكذلك عمرة التطوع، حيث يقول: «ينبغي للإنسان أن يفعل من التطوعات ما هو أصلح لقلبه وأنفع في وقته، فقد يصير العمل الفاضل مفضولا في بعض الأحيان وكذا عكسه. من ذلك أن الصدقة على الأقارب المحتاجين وعلى الفقراء والمضطرين أفضل من حج التطوع، سواء كان حجة عن نفسه أو عن والديه وأقاربه الميتين، لكون الصدقة تصادف من الفقير موضع حاجة وسدة فاقة، ولا شك أن العمل المتعدي نفعه إلى الغير أفضل من العمل المقصور على النفس». عزوفه عن التلفاز شغف الشيخ بن محمود بالقراءة والتأليف، وانشغاله بالقضاء والإصلاح بين الناس، لم يترك له وقتا لسماع الراديو ومشاهدة التلفاز. ومما أذكره عن الشيخ -يرحمه الله- أنه لم ير التلفاز في حياته ولا أعلم أنه دخل بيته إلا بعد وفاته، ولعل ذلك من أسباب احتفاظه بقوة ذاكرته حتى اللحظات الأخيرة من حياته. حديثي في إذاعة قطر كان لي حديث أسبوعي في إذاعة قطر ضمن أحاديث الصباح الدينية التي كانت تذاع السادسة والربع صباحا، وكان لها جمهور كبير في المنازل وفي وقت الذهاب للعمل. وقد سجلت مئات الحلقات في موضوعات مختلفة، كانت موضع اهتمام وعناية المستمعين، وما زالت إذاعة القرآن الكريم تعيد إذاعة بعضها حتى الآن. وقد سألته مرة عن رأيه في أحاديثي التي تبثها إذاعة قطر، ففاجئني بقوله إنه لا يسمع الإذاعة. خطبي في مسجده كان الشيخ بن محمود يخطب الجمعة في جامع الشيوخ أو الجامع الكبير، وكان له جمهوره ورواده الذين يحرصون على سماع خطبه والاستفادة من علمه. وفي بعض الجُمع كان يصيبه عارض صحي فيستدعيني لأخطب مكانه، وكان يحضر الخطبة جالسا بين المصلين. وكنت أستشهد في خطبي بأقواله ومواعظه وآثاره العلمية التي دونها في كتبه أو سمعتها منه مباشرة، أرويها للمصلين نقلا عنه كما حفظتها عن ظهر قلب. وكنت أراه يبتسم وهو يسمعني سعيدا بما أقوله من كلامه. حبه للعلم كانت حياة الشيخ طلبا متصلا للعلم منذ صغره، فقد كان منقطعا لتلقي العلم وحفظ القرآن والأحاديث والمتون المختلفة. وحين تولى القضاء لم يشغله عن طلب العلم شاغل. وكان شغوفا بالدراسة والمطالعة لا ينقطع عن التنقيب في بطون الكتب والبحث في المراجع والأمهات التي تحفل بها مكتبته الخاصة. وإن صادفته في أثناء قراءاته فكرة أو فائدة استحسنها بادر بتسجيلها حتى تبقى حية في ذاكرته، وتحوي أوراقه الكثير من هذه الكتابات، وهي مكتوبة على أي أوراق تكون في متناول الشيخ كظهر رسالة أو مظروف أو قصاصة ورق. بل إنه قد ينهض من نومه لتسجيل فكرة أو خاطرة قبل أن ينساها. وله ولع بالأدب والشعر ويحفظ الكثير من القصائد وأبيات الحكمة والأمثال العربية ويستشهد بها كثيرا في أحاديثه وكتاباته. قوة ذاكرته وقد رزقه الله ذاكرة نادرة، حيث كان سريع الحفظ ولديه قدرة على استرجاع ما حفظه والاستشهاد بما مر عليه، وعند مناقشة موضوع من المواضيع فإنه يشير إلى الدليل والمرجع الذي يستند إليه ويحدد الفصل والصفحة التي ورد فيها الدليل. يقول الشيخ عبدالقادر العماري: «كان -يرحمه الله- ذا ذاكرة سيالة وحافظة نادرة، يحفظ النصوص والأدلة والأشعار وأقوال الأئمة، ويستحضرها بمنتهى اليسر». وكان الشيخ حتى آخر أيامه يقرأ القرآن الكريم ولا ينسى منه شيئا، مع أن القرآن الكريم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم سريع التفلت، لكن كان ذلك بفضل الله أولا، ثم بحرص الشيخ على مراجعة محفوظه من كتاب الله من خلال ورد يومي استمر عليه طوال حياته. وقد حباه الله قدرة على الحفظ وسرعة في استحضار ما حفظه، وقد ساعده هذا على حفظ المتون والكثير من الأحاديث النبوية الشريفة بأسانيدها، وكانت ذاكرته القوية مضرب المثل. قاض عادل وقد اشتهر في قضائه بتحري العدل والنزاهة، وكان لا يفرق في قضائه بين كبير وصغير، فالجميع أمام الحق سواء، ويتناقل الناس كثيرا من المواقف التي حكم فيها لصالح أشخاص ضعاف ضد شيوخ ووجهاء، وهو يعتبر -بحق- مؤسس القضاء الشرعي في قطر، حيث وضع نظام تسجيل الأحكام والقضايا لحفظها. ولم يكن القضاة قبله يسجلون أحكامهم في سجلات، أو يكتبون الأحكام في صكوك، وإنما يكتفون بكتابة ورقة مختصرة في يد صاحب الحق تثبت حقه ولا يوجد ما يقابلها لدى القاضي. منهج فقهي متميز تميز منهج الشيخ الفقهي بخصائص ومميزات قد لا نجدها عند علماء آخرين، وهذه الخصائص والمميزات هي في حقيقة الأمر نابعة من ذلك الفهم العميق والنظرة الثاقبة غير المتزمتة لروح الشريعة الإسلامية الغراء، ومقاصد ديننا الإسلامي الحنيف التي أكرمه الله تعالى بها، فقد أحيا الشيخ -يرحمه الله- ذكرى أولئك السلف الصالحين الذين وقفوا حياتهم من أجل إحقاق الحق وإبطال الباطل، ورفع راية الإسلام والدفاع عن حياض الشريعة، وجعلوا الكتاب والسنة شعارهم ودثارهم وشغلهم الشاغل، وجعلوا فهم السلف الصالح للسنة والآثار نصب أعينهم، فأثروا الأمة الإسلامية عامة والأوساط العلمية خاصة بأفكار رائعة ونظريات قيمة ومناهج قويمة، تبتني دعائمها على البحث عن الحق والسير مع الدليل أينما كان بغض النظر عن كثرة القائلين. له فتاوى جريئة لم يسبقه أحد من العلماء السابقين أو اللاحقين إليها، ومن هذه الفتاوى: جواز رمي الجمار قبل الزوال، فتصدى له علماء نجد فأفحمهم وانتصر عليهم، لأنه يعلم كيف يجيب إذا تكلم، وكيف يستشهد إذا تحدث، وكيف ينتصر إذا ناظر، وكيف يقنع إذا أفتى. والشيخ بن محمود شجاع قوي، ناصح للأمة، ناصح لأولي الأمر من الحكام والأمراء، آمر بالمعروف، وناه عن المنكر، ناصر للسنة، محارب للبدعة، له هيبة إلهية، ورهبة ربانية، لا يعطي الدنية، ولا يقبل المهانة، ولا يفرط في الكرامة. الميل إلى التيسير حمل الشيخ لواء التيسير في الفقه، فكانت فتاواه تميل إلى التيسير عن علم ودليل. لقد كان الشيخ بن محمود صاحب منهج متميز في الفقه والإفتاء، فهم آراء العلماء الذين سبقوه ولم يغفل ظروف الواقع الذي كان يحيط به. ونظرة إلى فتاواه في مجموعة رسائله توضح بجلاء ما يسر به على الأمة في أمور الفتوى. كرمه وسخاؤه كان -يرحمه الله- يعشق البذل والعطاء ويسألني في إلحاح: «أن ابعث إلى من تراه محتاجا إلى العون في منطقتك». حتى ملأ خيره عشرات البيوت ممن أعرف. وكان شأنه مع الآخرين من أمثالي هكذا، يكلفهم بما يكلفني به، يعطي عطاء من لا يخشى الفقر، ويوظف كل من يقدر على العمل دون تباطؤ أو تأجيل. يهش للعطاء ويفرح بالبذل، ويتسع صدره لكل قاصد، وفيه أبوة حانية، يقضي حاجة من يقصده دون أن يشعره بغربة أو وحشة أو امتنان أو حتى إطالة كلام، كأنه المقصود من الشاعر الذي قال: تراه إذا ما جئته متهللا كأنك معطيه الذي أنت سائله! تدخل عليه فتحس بحنوه عليك وكأن بينك وبينه رحما أو نسبا، فهو كأحد أقربائك يدنيك إليه ويقبل عليك بكليته بسمعه وبصره وفؤاده، وفي حصافة بالغة يفهم عنك ما تريد دون أن يستزيدك. وفي سرعة ما كنت تتوقعها يقضي فوق ما كنت تتمنى وتريد، فتخرج عنه وقد امتلأ قلبك بحبه وملأ نفسك شعاع من ضيائه وعلمه، وعبثا أن يمحو الزمن ما أحدثه في نفسك من أثر. خاتمة ودعوة صادقة ولا تكفي هذه السطور ولا يتسع هذا المقال لسرد كل ما أتمنى أن أقوله عن شيخنا يرحمه الله، وأدعو إخواني الدعاة وأبنائي طلاب العلم لأن يتعرفوا عليه ويستزيدوا من علمه بقراءة كتاب «جواهر الشعر» الذي أشهد بأنه كتاب غير مسبوق فيما يحتويه من تعريف بسيرة الشيخ وجوانب من شخصيته ومواقفه، وغيض من فيض علمه. إنني أتوجه بجزيل الشكر وعظيم الامتنان للشيخ عبدالرحمن بن عبدالله بن زيد على هذا الجهد الرائع لإخراج «جواهر الشعر» للنور. وأتمنى أن يسعد أبنائي وإخواني من الدعاة والعلماء وطلاب العلم الشرعي كما سعدت بقراءة محتويات هذا الكتاب الفريد. وأسأل الله أن يتقبل ما عمله الشيخ عبدالرحمن وفاء وبرا لوالده، وأن يستفيد القارئ من هذه العصارة من الاختيارات البديعة التي جمعها الشيخ بن محمود على مدى أكثر من سبعين عاما من حياته المديدة. كما أسأله سبحانه أن يتقبل شيخنا في الصالحين ويجزيه خير ما جازى عالما في قومه وقاضيا في حكمه وخطيبا في محفله وحكيما في وطنه، إنه سميع الدعاء.