الجمال والجميل

alarab
الصفحات المتخصصة 27 نوفمبر 2015 , 09:20ص
أ.د.أحمد يوسف علي - أستاذ النقد الأدبي والبلاغة بجامعة قطر
من اللافت للنظر الفرق الواضح بين الجمال والجميل، والفرق بين الخير ووجوه الخير. فالجمال هو مصدر كل جميل، والجميل يختلف نوعا وكيفا من زمن إلى زمن ومن مكان إلى مكان، فما نعده جميلا أمس، قد لا يكون جميلا اليوم، فالمرأة بالأمس البعيد جميلة إذا كانت ممتلئة الأرداف والصدر والأرجل، وكانت حركتها هادئة بطيئة ومخدومة لا خادمة، هذه المرأة نفسها ما زالت جميلة اليوم، لكن على نحو مختلف كل الاختلاف عما سبق.

والجمال عندما ورد في القرآن ورد على هيئة صور حسية ومعنوية في الكائنات وفي الإنسان، ومنه جمال صفحة السماء في الليل والنهار "وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ" وجمال تضاريس الأرض الأودية والهضاب والجبال "وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ"، ومنه اهتمام أهل مكة قبل الإسلام بتصوير الإله على هيئة محسوسة تتوفر فيها صورة الجمال بما يتناسب ومدركاتهم.

وربما كان هذا من أسباب عزوف الأئمة عن النحت والتصوير خوفا من تشبيه الله أو مخلوقاته به سبحانه، وكراهية هؤلاء الأئمة للصورة إذا لم تكن مجردة.

وللجمال صور أخرى ليست أقل تأثيرا ولا جاذبية للعقل والقلب معا؛ ومنها صوره غير المحسوسة كما ورد في قوله تعالى "وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً"، فالصبر من عزائم النفس المؤمنة القوية على تحمل الأذى مع قدرتها على الصفح، وهذا الصبر ليس كالجبال أو السماء أو الأرض، جمالها ظاهر لكل ذي عينين، فكيف يكون صبرا جميلا أو هجرا جميلا؟ وإن لم يكن فهل نجد صبرا قبيحا؟ وهل يجوز أن يوصف الصبر بغير الجمال؟ الصبر من الخلق القويم "وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ"، فالصبر معنى والجمال معنى والهجر معنى، هذا المعنى يستقر في القلب وتظهر آثاره على السلوك، فلا صاحبه يجزع ولا يسخط ولا يشكو، ولا يمكن أن يكون صبرًا وقبحًا ويمكن أن يكون صبرًا ودعاء وتضرعًا إلى الله.

وقد أمر الله نبيه بالصبر على ما يقول الخصوم والمدعون، وقد قالوا أقوالا مؤلمة وجارحة ومنها: "قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ" ومنها "إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ"، ومنها "إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ" ومنها "أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً".

والهجر الجميل قرين الصبر الجميل، فالهجر التغاضي عما يقولون، ولما كان الهجر يستوجب كراهية المهجور، فالهجر الجميل يستوجب كراهية القول لا كراهية القائل أو المهجور، وفي ذلك معنى جمالي عظيم وهو أن المهجور قد يراجع حاله بعد الهجر، ويراجع أقواله فيعدل عنها، ولا يبقي منه إلا ما قال، وهذا الذي قاله قد هجرناه وارتفعنا فوقه ولم نعامل صاحبه بما قال، فلم نشتم ولم نسب ولم نؤذ مع قدرتنا على الرد والشتم والأذى، وهذا جمال إنساني رفيع يتوافق مع وظيفة الجمال في الكون وفي حياة الناس كل الناس.

فالجمال له أثر جميل في النفس ونفع عظيم، ولعل هذا هو الذي نجده في كون القرآن معجزة بيانية لغوية، يصدر عن أصل المعاني كلها وهو الله، ومن هنا فائدته وصدقه وهذه المعاني جاءت في سياقات بيانية جميلة رفيعة، ما زالت تدهش الإنسان في كل زمان ومكان.

ahmed@qu.edu.qa

                               /أ.ع