القرضاوي: قوة الأنسي تفوق الجني بمراحل
الصفحات المتخصصة
25 ديسمبر 2015 , 06:52ص
يوسف القرضاوي
كان من أكبر أمنياتي أن أتوجه لكتابة تفسير مختصر للقرآن الكريم، وعزمت على ذلك وأعلنت هذا الأمل المتجدد، ودعوت الله أن يحققه لي، ليكون حاشية في مصحف قطر، بخط الخطاط المتقن عبيدة البنكي السوري، وبدأت بتفسير سورة الفاتحة وسورة النبأ، لكني وجدت أن ما يجول في خاطري من معاني القرآن يأبى أن يتقيد بحاشية مطبوعة على المصحف، فخرجت عن هذه الخطة إلى الكتابة المسترسلة، على طريقتي في التأليف التي اعتدتها منذ كتابي الأول: الحلال والحرام في الإسلام.
ووفق الله فأتممت تفسير جزء عم، وهأنذا قد أتم الله عليّ تفسير جزء تبارك، وأسأل الله أن يبارك في الوقت والجهد لأتم ما أؤمله من تفسير كتابه. وهذا جزء تبارك بين أيديكم، وقد قدمت -على طريقتي في تفسير جزء عم- لكل سورة بذكر أهم مقاصدها، ثم أفسر سائرها، جزءًا جزءًا، وآية آية، جاعلًا اهتمامي الأول أن أفسر القرآن بالقرآن، ثم بالسنة الصحيحة، جامعا بين العقل والنقل، والرواية والدراية، مستعينا أولا بالتأمل، ثم بقراءة التفاسير المهمة والاقتباس منها، ولن يعدم القارئ فيه فائدة، وسيجد فيه الخطيب والمحاضر والمدرس والداعية زادا نافعا.
{فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا} يعني: ملائكة يحفظونه عن أن يقرب منه شيطانٌ، فيُحفظ الوحْيُ من استراقِ الشياطين، والإلقاء إلى الكهنة.
قال الضحَّاك: ما بعث الله نبيًّا إلا ومعه ملائكة يحرسونه من الشياطين عن أن يتشبَّهوا بصورة المَلَك، فإذا جاءه شيطانٌ في صورة الملك قالوا: هذا شيطان فاحذره. وإن جاءه الملك قالوا: هذا رسول ربِّك. وقال ابن عباس وابن زيد: رصدًا أي حَفَظة يحفظون النبيَّ صلى الله عليه وسلم من أمامه وورائه من الجنِّ والشياطين. قال قتادة وسعيد بن المسيَّب: هم أربعة من الملائكة حَفَظَة.
وقال الفرَّاءُ: المراد جبريل، كان إذا نزل بالرسالة نزلت معه ملائكة يحفظونه من أن تستمع الجنُّ الوحيَ، فيلقوه إلى كَهَنتهم، فيسبقوا الرسول .
وقال السُّدِّي: {رَصَدًا} أي حفظة يحفظون الوحي، فما جاء من عند الله قالوا: إنه من عند الله، وما ألقاه الشيطان قالوا: إنه من الشيطان.
و(رصدًا) نُصِبَ على المفعول. وفي الصحاح: والرَّصَدُ القوم يرصدون كالحَرَس، يستوي فيه الواحد والجمع، والمذكر والمؤنث، وربما قالوا أرصادًا)).
التفاضل بين الجن والإنس:
الجن والإنسان نوعان من مخلوقات الله تعالى الحيَّة العاقلة، ولكنَّهما يشتركان في أن كل نوع منهما مُكلَّف لعبادة الله تعالى، وطاعة أمره، وتنفيذ حكمه، قال تعالى: {وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56].
ولكن هناك من الإنس من يودُّون أن يبحثوا: أي الجنسين أفضل؟ وأيهما أقدر على التعلُّم والتحكُّم في مادِيَّات الكون ومُسخَّرَاته: أهو الإنس أو الجنُّ؟ الفرد أو النوع؟
والذي يتبيَّن لنَّا من خلال النصوص الدينية الثابتة، والتي هي المصدر الوحيد لمعرفة الحقائق عن الجنِّ خاصَّة؛ إذ الإنسانُ تُمكن معرفتُه عن طريق الملاحظة والتجربة، والسؤال والجواب، والنوم واليقظة، والصحة والمرض، وغيرها من الظواهر والعادات والأساليب، التي تُمكن بها معرفة الإنسان، ومقارنة أحواله وتطوراته، ومناظرة بعضها ببعض، إلى آخر ما يمكن للإنسان ظاهرًا وباطنًا من إمكان معرفة الإنسان، وهو أمر معلوم، وإن اختلفت أسبابه، واختلفت مظاهره، واختلفت عناصره، واختلف باحثوه، واختلفت نتائجه.
ولكنَّ الجنَّ ليس لنا بهم صلة معروفة، إلا ما يدَّعيه بعضُ الناس من الصِّلة بهم، ولا نعرف صدقَهم من كذبهم، وصوابَهم من تَخَرُّقهم.
ما نقوله عما بين الجن والإنس من أمور:
الذي نقوله نحن المؤمنين بوجود الجن عن طريق النبوَّات والكتب السماوية عدة أمور:
1- الجنّ مخلوقات، وُجدت قبل الإنسان، بمدَّة لا يعلمها إلا الله، ثم خلق الله الإنسان.
2- الجنُّ يرى الإنسانَ، على حين لا نراهم، كما قال تعالى عن إبليس وهو من الجنِّ بنص القرآن: {إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ} [الأعراف:27].
3- الجن يقدرون على التشكُّل، فيمكن تصوُّر الجني في شكل قِطٍّ أو كلب، أو حمار أو سَبُع، أو مَلِك أو خادم، أو إنسان عادي. وهذه مَزِيَّة تعطِي للجنيِّ قوَّةً ليست للإنسيِّ.
4- الإنسان خلقه الله في أحسن تقويم، كما قال القرآن: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} [التين:4]. {وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ} [غافر:64، التغابن:3]، {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ} [الانفطار:7-8].
5- الإنسان مخلوق مُكَرَّم، أي كرَّمه الله تعالى ومكَّن له في الأرض، كما قال تعالى: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا} [الإسراء:70].
6- الله سبحانه سخَّر للإنسانِ ما في السماوات، وما في الأرض من نِعَم، فالنُّجوم تهديه، والشمس تعطيه الشعاعَ والحرارة والضياءَ، والقمر يعطيه النُّور، والأرض تعطيه الماء والتربة والبُذورَ، والبحار تسقيه الماء، كما قال تعالى: {أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً} [لقمان:20].
7- أرسل الله الرسلَ الذين يتولَّوْن هداية الجِنْسَين، من بني الإنسان، بدَأَهم بآدمَ ثم نوحٍ، وختمهم بمحمدٍ عليه الصلاة والسلام، وهذا يمنح فضلًا كبيرًا لبني آدم على النوع الآخر.
8- خلق الله الجنَّ قبل آدم، فلم نعرف لهم تاريخًا ولا ذِكْرًا، ولكن لما أراد الله خلق آدم ليكون في الأرض خليفة: شاور فيه ملائكته {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً} [البقرة:30]. وكان خلق آدم خلقًا عجيبًا، يجمع بين طين الأرض وصلصالها، والنفخة الإلهيَّة في الطين التي حوَّلَتْه إلى روح. {إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ * فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ * إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ * قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ} [ص:71-75]. فخلق الله آدمَ بيديه، ونفخ فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وسخر له ما في السماوات وما في الأرض جميعًا منه، وطرد إبليسَ من ساحة قُرْبِه، حين تمرَّدَ على السجود لآدم، وقَرَّبَ كُلَّ من عادى إبليس لعداوة آدم ووالى الله: {إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ} [القصص:15].
9- عُرِفَ أنَّ مِن الناس مَن استخدموا الجنَّ، ليعملوا في خدمتهم، ولم يعرف أن أحدًا من الجن استخدم آدميًّا طواعية ليعمل عنده كما يريد. فنجد سليمان عليه السلام أخدمه الله الجن: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ:13].
10- وجدنا الفرق بين قوة العفريت الجنِّي وقوة الإنسان العالِم، بما طلبه النبي الملك سليمان من كل من الجنسين، فوجدنا الإنسيَّ يفوق الجني بمراحل ومراتب.
{قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ} [النمل:38-40].
وهذا الذي عنده علم من الكتاب إنما هو من بني الإنسان، فلم يكن من عقلاء جلسائه، أو مكتبه التحضيري أو التنفيذي: إلا الجن والإنس، وقد قدَّم الجني أفضل ما عنده، وقدَّم الإنسيُّ أفضل ما عنده. ولا شك أن الإنسي الذي عنده علم من الكتاب؛ وكان عنده من هذا العلم، الذي منحه الله له، وعرَّفه من أسراره، ما استطاع أن يجلب عرش الملكة العربية بلقيس من اليمن إلى فلسطين، في لمحِ البصر {قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ} [النمل:40]، فهذا يَدُلُّنا، على مقدار ما أوتيه الإنسان، كما قال تعالى: {عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ} [العلق:5].
11- لقد حدَّثَتْنا الكتبَ السماويَّة المُنَزَّلة من عند الله تعالى، عن مقدار ما عند الإنسان من قُدرات على الصناعة والتفكيك، والتَّحليل والتَّركيب، والتَّجميع والتَّفريق، والتقريب والتبعيد، والوصل والتقطيع، فيما أتيح له في عناصر الكون الكبير، ما دلَّنا على أنَّ الله تعالى آتى الإنسان ما لم يُؤته مخلوقًا آخر. كما قال تعالى: {وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [النمل:93]. وقال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} [فصلت:53].
ولقد شهدنا في أرضنا هذه- أو كوكبنا الذي نعيش فوقه- من صناعة الإنسان وهندسته واتِّساع معارفه، وابتكار أدواته، وإنجازات المتفوِّقِين من أبنائه وعلمهم كثيرًا من المعارف والعلوم، التي لا يسلُس قيادُها إلا للكبار الذين يوفقهم الله سبحانه إلى العلم النافع، والعمل الصالح، والإنجاز الرائع، والعمل الراشد. والحمد لله رب العالمين.
يتبع الأسبوع القادم
إن شاء الله