«العرب» تنفرد بتفسير جزء تبارك للشيخ القرضاوي

alarab
الصفحات المتخصصة 25 سبتمبر 2015 , 05:42ص
يوسف القرضاوي
كان من أكبر أمنياتي أن أتوجه لكتابة تفسير مختصر للقرآن الكريم، وعزمت على ذلك وأعلنت هذا الأمل المتجدد، ودعوت الله أن يحققه لي، ليكون حاشية في مصحف قطر، بخط الخطاط المتقن عبيدة البنكي السوري، وبدأت بتفسير سورة الفاتحة وسورة النبأ، لكني وجدت أن ما يجول في خاطري من معاني القرآن يأبى أن يتقيد بحاشية مطبوعة على المصحف، فخرجت عن هذه الخطة إلى الكتابة المسترسلة، على طريقتي في التأليف التي اعتدتها منذ كتابي الأول: الحلال والحرام في الإسلام.

 ووفق الله فأتممت تفسير جزء عم، وهأنذا قد أتم الله عليّ تفسير جزء تبارك، وأسأل الله أن يبارك في الوقت والجهد لأتم ما أؤمله من تفسير كتابه. وهذا جزء تبارك بين أيديكم، وقد قدمت -على طريقتي في تفسير جزء عم- لكل سورة بذكر أهم مقاصدها، ثم أفسر سائرها، جزءًا جزءًا، وآية آية، جاعلًا اهتمامي الأول أن أفسر القرآن بالقرآن، ثم بالسنة الصحيحة، جامعا بين العقل والنقل، والرواية والدراية، مستعينا أولا بالتأمل، ثم بقراءة التفاسير المهمة والاقتباس منها، ولن يعدم القارئ فيه فائدة، وسيجد فيه الخطيب والمحاضر والمدرس والداعية زادا نافعا.

بداية تفسير سورة نوح :

{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ يَاقَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ * يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}

{إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}:

هذه بداية السورة: إعلان الرب الأعلى: أنه أرسل نوحًا إلى قومه، وما أعظمها من رسالة! وما أرفعه من خطاب! وما أهوله من إنذار! وما أعظمه من مرسِل! وما أعظمه من رسول! إنه رسول من رب العالمين.

أول رسالة من الله إلى بشر مكذِّبين ومشركين جاءت بهذه الصيغة: {إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ} بلغة المتكلِّم الأعظم، فهو يتكلم بلغة الجمع، كما قال تعالى: {إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ* فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ} [المعارج:39-40] {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر:9] {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر:1]، وغيرها من الآيات الكثيرة.

المرسِل هو الله ربُّ السماوات ورب الأرض، رب العرش العظيم، والمرسَل هو عبده نوح الذي اختاره من بين خلقه، فاختصَّه بنبوَّته، وأوحى إليه برسالته، وألزمه أن يدعو قومه إلى نبْذ ما هم فيه من الشِّرك والكفر، فليس هناك من يستحقُّ أن يُعبَد سواه جلَّ وعلا.

الله وحده هو الجدير بأن يُعبد؛ لأنه الخالق العظيم، الذي خلق الكون، وخلق الإنسان، وكلَّفه أن يعبده وحده لا شريك له، وهو صاحب النعم الكبرى: نعمة الإيجاد، ونعمة الإمداد، ونعمة الحياة، والسمع والبصر والفواد، ونعمة تسخير الكون كله لخدمة الإنسان، كل هذا يجعله تبارك وتعالى أهلًا لأن يُعبد وحده لا شريك له، وأن يُنفَر من كل ما يؤلَّه من دونه، فكلهم من خلقه، وهم لا يستطيعون أن يخلقوا ذبابًا ولو اجتمعوا له، ولا يستطيعون أن يدفعوا عن أنفسهم الموت أو الأذى.
بطبيعة الحال أرسِل نوح إلى قومه، فلم يكن هناك قوم غيرهم، وهكذا كل رسل الله من بعده أرسلوا إلى أقوامهم، هود أرسل إلى قومه عاد، وصالح أرسل إلى قومه ثمود، وإبراهيم أرسل إلى قومه، وكذلك إسحاق ويعقوب ويوسف أرسلوا إلى أقوامهم، وموسى وأنبياء بني إسرائيل أرسلوا إلى أقوامهم، ومنهم المسيح عيسى بن مريم أرسل إلى خراف بني إسرائيل الضالة، كما قال هو عن نفسه.

محمد صلى الله عليه وسلم خالف هؤلاء جميعًا في أمرين:

أولهما: أنه أرسل إلى الناس كافَّة، كما قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:107]. {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} [الأعراف:158]، وقال عليه الصلاة والسلام: «كان النبي يُبعث إلى قومه خاصَّة، وبُعثت إلى الناس كافَّة».

وثانيهما: أنه جاء ليختم الأنبياء، فليس بعده نبيٌّ يأتي برسالة جديدة للناس، كما قال تعالى: {وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ} [الأحزاب:40].

ولهذا قال: «أنا العاقب». والعاقب الذي ليس بعده نبي.

لماذا أرسل الله تعالى نوحًا إلى قومه؟:

{أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} كل رسل الله جاءوا مبشرين ومنذرين، كما قال تعالى: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} [النساء:165]. وكما قال الله تعالى لمحمد: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا} [الأحزاب:45]. ومع هذا قال له في بعض سور القرآن: {إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ} [فاطر:23]. {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد:7]. {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ} [غافر:18]. بل سُمِّي الرسلُ كلهم نُذُرا، كما قال تعالى: {وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ} [فاطر:24].

حين تتفرغ أمة للشرك وللباطل، وتقاوم الحق ودعوته، وتقف ضدَّ دعاة توحيد الله وطاعته، لا يستحق هؤلاء القوم أن يُبشَّروا بخبر يسُرُّ، أو شيء يُفرح، بل لا يستحقون إلا الإنذار، والإنذار وحده. ومن هنا كان إرسال نوح إلى قومه الكافرين المجاهرين المعاندين المصرين: {أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
كان خطاب الله جل جلاله لنوح: أن أنذر قومك، فليس لهم إزاء هذا الموقف، موقف الذين كفروا وصدُّوا عن سبيل الله، الذين كفروا وظلموا وكابروا وأفسدوا في الأرض، {وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا * وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا} [نوح:22-23]. ليس لهم إزاء هذا الموقف اللئيم العنيد إلا عذاب أليم، يأتيهم من قبل الله الذي كفروا به، وكذَّبوا برسوله، {وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ} [القمر:9]، ورغم طول السنين، ومرور الدهور، دهرًا بعد دهر، لم يزدهم دعاؤه لهم إلا ضلالًا.

العذاب الأليم هو الموجِع، وقد يكون في الدنيا، كأن يخسِف الله بهم الأرض، أو يُسقط عليهم كِسْفًا من السماء، أو يغرقهم بماء يَفيض من الأرض، أو ينزل عليم من فوقهم، أو نحو ذلك. وقد يكون عذاب الآخرة التي أعدَّ الله فيها النار للذين كفروا، فالعذاب الأليم إما عاجلٌ أو آجلٌ.

{قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ}:

هذا القول من نوح استئناف مبنيٌّ على سؤال نشأ من إرسال نوح بالإنذار، كأن قيل: فما فعل عليه السلام؟ فقيل: قال لهم: {يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ}، إني نذير مُخوِّف لكم من قبل الله تعالى بيِّن النذارة، موضِّح لحقيقة الأمر مظهره لكم بلسانكم الذي تعرفونه. فالله تعالى يقول مخبرًا عن نوح: إنه أرسله إلى قومه، آمرًا له أن ينذرهم ويخوفهم بأس الله الذي لا يردُّ عن القوم المجرمين، قبل حلوله بهم، فإن تابوا وأنابوا دفع عنهم.

وهكذا سنَّ نوح شيخ المرسلين طريقة البلاغ للمشركين، ففيها الوضوح والبيان، وفيها التحذير والتخويف من سوء العاقبة لِمَن كذَّب وعصى. وهكذا شأن المرسلين.

بِمَ أنذر نوح قومه ؟

{أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ} (أن) هنا، الأظهر أنها المفسِّرة، وهي المسبوقة بجملة فيها معنى القول دون حروفه، وهي جملة :{إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ}.

أمرهم عليه السلام بثلاثة أوامر:

أولها: أن يعبدوا الله، بمعنى: أن يخضعوا له كل الخضوع الممزوج بغاية الحب. فهذه هي حقيقة العبادة، التي لا يستحقها إلا الخالق الأعظم، والرب الأعلى، واهب النعم العليا. ومعنى هذا: ألا يعترفوا بربٍّ غيره، ولا بمعبودٍ سواه، ولا آمر ولا ناهٍ إلا هو. وهذا معنى: أنه لا إله إلا هو.

وثاني هذه الأوامر: أن يتَّقوه سبحانه، ومعنى تقواه: أن يخافوا مقامه، ويلتزموا أحكامه، فلا يعصون له أمرًا، ولا يرفضون له رسالة، ولا يتوانون في تنفيذ كل ما يطلبه منهم. فالمراد: اتركوا محارمه، واجتنبوا مآثمه.

والأمر الثالث، هو الذي قال فيه: {وَأَطِيعُونِ} أي: أطيعوني فيما آمركم به، وأنهاكم عنه. طلب منهم أن يطيعوا أمره؛ لأنَّ أمره ليس من عند نفسه، ولا من طوع هواه، ولكنه من عند ربه، كما قال تعالى عن نبيه محمد: {مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ} [النساء:80]. وكذلك هنا: من أطاع نوحًا فقد أطاع الله تعالى، فلم يجئ الأنبياء الذي أرسلهم الله لعباده ليجعلوا البشر خَوَلًا لهم، أو عبيدًا في أيديهم، بل إنما جاءوا ليحرِّروهم من كل ما يُقَيِّدهم في حياتهم، ويضع الأغلال في أعناقهم، بلا هدف يحتاج إليه الناس، ولا أمر من الله عز وجل، فهو لا يأمر إلا بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى.


{يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ}:
أي: إذا فعلتم ما أمرتكم به، واتقيتم ما نهيتكم عنه، وصدَّقتم ما أُرسلتُ به إليكم؛ غفر الله لكم ذنوبكم. و(مِنْ) في قوله: {مِنْ ذُنُوبِكُمْ} قيل: إنها زائدة، ولكن القول بزيادتها في الإثبات قليل، (إنما الزيادة في النفي). ومنه قول بعض العرب: قد كان من مطر.

وقيل: إنها بمعنى (عن) تقديره: يصفح لكم عن ذنوبكم. واختاره ابن جرير. ولا أرجح اختياره.

وقيل: إنها للتبعيض. أي: يغفر لكم الذنوب العظيمة التي أوعدكم على ارتكابكم إيَّاها بالانتقام.

والمعنى الراجح لـ»مِن» أنها تبعيضية، وعلى هذا يكون المعنى: إن تعبدوا الله وتتقوه وتطيعوني فيما أدعوكم إليه، يَغفر لكم بعضَ ذنوبكم، وهي حقوق الله عليكم، فلا يؤاخذكم عليها، ولا يُجازيكم بعذاب على اقترافها، ويُبْقي عليكم حقوق العباد، فهذه إمَّا أن تؤدُّوها، أو تؤدُّوا تعويضًا عنها، أو يُسامحكم أصحابها.?

يتبع الأسبوع القادم..