

المنتدى الاقتصادي العالمي يضع قطر في مقدمة دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في توافر اليد العاملة المؤهلة تقنياً
يجب توفير التدريب المتخصص والمستمر وفرص تطوير المهارات للخريجين والقوة العاملة الحالية
تحويل الخدمات الرسمية إلى شكلها الإلكتروني الحالي ليس أتمتة شاملة
أكد السيد شاهين السليطي، كبير مسؤولي البرامج والخدمات المهنية في مركز قطر للتطوير المهني، أن دراسة حديثة صادرة عن معهد قطر لبحوث الحوسبة، كشفت عن أن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي (AI) لوحده قادرٌ الآن على أتمتة 46% من الأعمال المجراة حالياً داخل دولة قطر، موضحاً أن التحديث والأتمتة لا يحمل قيمةً سلبيّةً بحد ذاته، وإنّما منهجية تنفيذه وترسيخه ضمن الدّولة هي ما تحدّد نتاجه.
وقال السليطي في حوار لـ «العرب» إنه في حالة التطوّر المتسارع الذي نشهده الآن في دولة قطر، فإن الأتمتة الشاملة ليست الهدف من وراء رؤية قطر الوطنية 2030، وتحويل الخدمات الرسميّة إلى شكلها الإلكتروني الحالي ليس أتمتة شاملةً أيضاً، مشيراً إلى أن المنتدى الاقتصادي العالمي يضع قطر في مقدّمة دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في توافر اليد العاملة الخبيرة والمؤهلة تقنيّاً.
ولفت إلى أن ما يحدث حالياً في قطر هو أتمتة جزئية توصف اصطلاحاً بأتمتة العمليات الإدارية، ولا تُغني عن الحاجة للإداريين الخبراء، وأن هذا النوع من الأتمتة يختصر الكثير من الوقت في التفاعل بين الجهة المقدّمة للخدمة والمستفيد منها، وأن الآليات الجديدة ترفع الطلب على الخبراء التقنيين والمهندسين والمبرمجين وغيرهم ممن يطوّرون الأدوات الإلكترونية.
وأشار إلى أن الحلقة الجديدة من التحديث تتطلّب أن يتأقلم الموظفون مع متطلّبات سوق العمل، وأنه على الفرد أن يبادر لتوسيع أدواته وخبراته.. وعلى المؤسّسة أن توفر فرصاً للتدريب على التقنيات الجديدة لموظفيها الحاليين. وإلى نص الحوار:
أغلب مؤسسات الدولة باتت تعتمد في تقديم خدماتها على التقنيات الحديثة فهل هذا التوجه يؤثر سلبا على سوق العمل؟
لعلّ الطريقة الأفضل للإجابة على هذا السؤال هي وضعه في سياقه العالمي أولاً، ومن ثم بحثه على مستوى دولة قطر، وذلك لتوضيح التباين بين الآثار السلبية مقابل الإيجابية لهكذا تحوّل.
إذا بحثنا أثر الأتمتة على المستوى العالمي، نجد أن الثورة الصناعية الرابعة التي نعيشها، مثل سابقاتها، غيّرت نظرتنا للعمل نفسه، ناهيكم عن كيفية أدائه. فكما كان المحرّك البخاري وخطوط الإنتاج الآلية نقلات نوعيّة في قطاع الصناعة، ثمّ كان تطوّر الاتّصالات نقلة نوعيّة في القطاع المالي والمصرفي، راقب العالم بأسره تزايد اعتمادنا على الحاسوب والإنترنت في كل مجالات العمل الممكنة. أمّا الآن، فنحن نعيش حقبة تطوّر مركّبة تتقاطع فيها كل الحقبات السابقة. مركّبة بمعنى أنّ التطوّر في أحد المجالات التقنيّة يفتح الباب على مصراعيه لتطوير كلّ المجالات الأخرى. فالدفع الإلكتروني، مثلاً، يمكّنك من دفع فواتيرك دون الحاجة لإنشاء مراكز خدمات، وما يلي ذلك من انتفاء الحاجة لتوظيف طاقم فني يدير المركز. وهنا يكون السؤال هل هذه النتيجة سلبية على سوق العمل؟ باعتقادي أن هدف أي مقدّم خدمة، حكوميّاً كان أم من القطّاع الخاص، هو تقديم أفضل خدمة ممكنة بأقل تكلفة، أي أن الهدف هو رفع الإنتاجية واستفادة وراحة المستفيد من الخدمة، حتى وإن تعارض ذلك مع تأمين أكبر عدد ممكن من فرص العمل. كما أنّ سوق العمل والقوة العاملة عبارة عن هياكل متغيّرة ومتطورة باستمرار، وحين لم يعد هناك حاجة لأداء عمل ما، تتحوّل الجهود نحو إنجاز وتحسين آخر.
يتضّح ذلك بامتياز في دولة قطر، حيث إن تبنّي أحدث التقنيّات، وعلى رأسها الذكاء الاصطناعي، في الجهود الرامية لتحويل الاقتصاد القطري إلى اقتصاد قائم على المعرفة ضمن رؤية قطر الوطنية 2030، يغيب عنه الأثر السلبي المتوقّع المتمثّل بتقلّص سوق العمل وزيادة اللامساواة في الدخل. بل العكس تمامًا، حيث تم تحرير فئة معتبرة من المهنيين والعاملين ضمن الدولة من أداء المهام الروتينية ليُتاح لهم العمل في مواقع أكثر إنتاجية وإبداعية.
لا توجد قيمة سلبية
آلاف الموظفين كانوا يعملون لسنوات على خدمات باتت تقدم إلكترونيا، ويفضل السكان الاستفادة منها عن طريق التطبيقات المختلفة والمواقع الإلكترونية، فماذا عن هؤلاء الموظفين؟
استكمالاً لما كنت أقوله في النقطة السابقة، لا يحمل التحديث والأتمتة قيمةً سلبيّةً بحد ذاته، وإنّما منهجية تنفيذه وترسيخه ضمن الدّولة هي ما تحدّد نتاجه. في حالة التطوّر المتسارع الذي نشهده الآن في دولة قطر، فإن الأتمتة الشاملة ليست الهدف من وراء رؤية قطر الوطنية 2030، وتحويل الخدمات الرسميّة إلى شكلها الإلكتروني الحالي ليس أتمتة شاملةً أيضاً. فوفق أحدث الدراسات الصادرة عن معهد قطر لبحوث الحوسبة، نجد أن الذكاء الاصطناعي (AI) لوحده قادرٌ الآن على أتمتة 46% من الأعمال المجراة حالياً داخل دولة قطر، سواء كلّياً (أي الاستعاضة بالذكاء الاصطناعي بشكل كامل لأدائها) أو جزئياً. ويتركّز التأثير المتوقّع للأتمتة الشاملة باعتماد الذكاء الاصطناعي على مهن الياقات البيضاء، كجمع المعلومات وتحليلها، وبعض المهن في القطاعين المالي والمصرفي، وفي معظم القطاعات الحكومية والإدارية، وحتى أقسام الموارد البشرية. ولا شكّ أن هكذا تغيّر سيحدث فرقاً جوهرياً في سوق العمل في دولة قطر وتركيبها.
أمّا الذي يحدث حالياً فهو أتمتة جزئية، توصف اصطلاحاً بأتمتة العمليات الإدارية، لا تُغني عن الحاجة للإداريين الخبراء، بل تختصر الكثير من الوقت في التفاعل بين الجهة المقدّمة للخدمة والمستفيد منها. وعلى العكس تماماً، تخلق هذه الآليات الجديدة حاجةً لتشكيل أقسام معلوماتيّة وتقنيّة في كل إدارة، وترفع الطلب على الخبراء التقنيين والمهندسين والمبرمجين وغيرهم ممن يطوّرون الأدوات الإلكترونية هذه. أمّا بالنسبة للموظّفين الذين اعتادوا على أسلوب معيّن للقيام بأعمالهم، فإن هذه الحلقة من التحديث، كمثل سابقاتها مجدّداً، تتطلّب منهم أن يتأقلموا مع متطلّبات سوق العمل الجديدة، وهي مسؤولية مشتركة يتحمّلها الفرد بمبادرته لتوسيع أدواته وخبراته، والمؤسّسة بتوفيرها فرصاً للتدريب على التقنيات الجديدة لموظفيها الحاليين، والدولة بتسيير وتخطيط عملية التحديث هذه ودعم المؤسسات والأفراد للتأقلم معها.
استخدام الروبوت
الاستخدام التقني للروبوت مستقبلا، هل سيكون بديلا مجديا للقيام بالكثير من الأعمال، وماذا عن العاملين في هذه الوظائف؟
استخدام الروبوتات هو مثالٌ مهم على المعتقدات الملتبسة المحيطة بالأتمتة والتحديث. فعلى عكس الأتمتة الحاسوبية، ورغم كل التقدّم التقني الذي نعيشه، يبقى الروبوت أضعف جوانب الأتمتة حتى اليوم، لدرجة أن دوره يكاد يكون مهملاً خارج السياق الصناعي الذي تقوم فيه الروبوتات بأداء بعض المهام الخطرة أو الصعبة، وغالباً ما تحتاج فيها إلى توجيه مستمر من البشر. أمّا في العمل الإداري، أو التعليم، أو الطب وغيرها مما تبقى من القطاعات، فإن الروبوتات إن وجدت يكون دورها محدوداً وداعماً للعنصر البشري. في ظل التطور المتسارع في الذكاء الاصطناعي، قد يختلف مستقبل الروبوتات وما يمكن لها أن تتقنه أو لا. لكن هذا نقاش يتعلّق بنظرتنا للإبداع البشري وقدرة الإنسان على ترجمة مفهوم الإبداع للغة الآلة ولخوارزميات برمجية، وهو نقاش مختلف تماماً، ولا يتعلق بسوق العمل بشكل مباشر، بل بكل الوجود الإنساني عامّةً.
تدريب الطلاب
الكثير من الكليات لا تُدرب طلابها على العمل الإلكتروني، فما أثر ذلك على الخريج مستقبلا؟
لا أتّفق تماماً مع هذا التقييم، إذا نظرنا مجدّداً للصورة الأوسع، على مستوى المنطقة على الأقل، نجد أن المنتدى الاقتصادي العالمي (WEF) يضع دولة قطر في مقدّمة دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في فئتين: الأولى هي جودة النظام التعليمي، والثانية هي توافر اليد العاملة الخبيرة والمؤهلة تقنيّاً. هاتان الفئتان هما أهم محدّدات قابليّة الدولة للتطوير والأتمتة بالاعتماد على التكنولوجيا، وهما السبب وراء الأفضلية التنافسية لدولة قطر على المستويين العالمي والإقليمي في مجال التحديث الاقتصادي والإداري، بالطبع إلى جانب البنية التحتية التقنية والمعلوماتية المتطورة.
وما كان بالإمكان اعتماد الأتمتة في العمل في دولة قطر على النطاق الذي تم إنجازه ليكون ممكناً لولا توافر الخريجين المؤهلين والمعتادين على إدخال التقنيات الحديثة في عملهم اليومي وتعليمهم. هذا لا يعني بالضرورة أنه لا مجال للتطوير على العملية التعليمية بشكلها الحالي، لكن من المهم أيضاً التعرف على مواطن القوة والضعف بدقة لتقديم النقد البنّاء. ومع ذلك، فلابد من فهم محدودية التعليم الجامعي، وحتى التعليم العالي، عند متابعة التطور المستمر في سوق العمل، وفي الأتمتة بشكل عام. فمرحلة التعليم الرسمي لابد لها أن تنتهي، ويبقى على الخريج نفسه، وعلى المؤسسة التي تحتويه، أن يجدا فرصاً وأنشطةً لصقل المهارات الموجودة، وتعلّم الجديد لضمان بقاء الخريج مؤهلاً للتعامل مع أحدث التقنيات، وذلك لأن التطوّر الذي نعيشه لا يُقاس بالعقود، وإنما بالسنين والأشهر.
تطورات تقنية
ما توصيات مركز قطر للتطوير المهني في تطوير مهارات الكوادر المحلية لتواكب مثل هذه التطورات التقنية؟ - وما دور المركز في هذا الإطار وأبرز توصياته لمواكبة التقنيات الحديثة لدى الشباب حتى يكونوا مؤهلين لمواكبة سوق العمل؟
يضع مركز قطر للتطوير المهني نفسه في صلب عمليّة التطوير التي تقوم عليها جهود الانتقال للاقتصاد القائم على المعرفة، وذلك عبر معالجة مجموعة من التحدّيات المتعلّقة بالأتمتة والتحديث على صعيدين:
نجد أوّلها على مستوى النّظام التعليمي، حيث نرى أنّه من غير الكافي أن يكون الخريجون معتادين على استعمال التقنيات الحديثة في حياتهم العملية، بل يجب توفير التدريب المتخصص والمستمر، وفرص تطوير المهارات حتى بعد التخرّج للخريجين والقوة العاملة الحالية على حدٍّ سواء. ويكون دور مركزنا في هذه النقطة عبر تشجيع وترسيخ ثقافة التعلّم مدى الحياة التي تحمي القوّة العاملة من أخطار الاستجابة البطيئة للتغيرات في متطلبات سوق العمل. كما يقوم مركزنا بدورٍ توعوي مهم عبر خدمات الإرشاد، ومنشوراته وبرامجه وفعالياته المتنوعة بتعريف الأجيال الصاعدة على المهن المختلفة، وخصيصاً تلك منها التي يتزايد الطلب الوطني عليها بسبب عمليّة التطوير المستمرّة التي نتحدث عنها.
أما المستوى الثاني فهو مستوى سوق العمل، فينشط مركز قطر للتطوير المهني في السنين الأخيرة، وبالتعاون مع الشركاء في مجال التوجيه المهني، على إيجاد صيغة تفاعلية تصل قطاعات سوق العمل بهيئات التعليم والتعليم العالي، وذلك لضمان إيصال متطلّبات سوق العمل المتطوّرة باستمرار مباشرةً إلى الجهات التعليمية والتدريبية المسؤولة عن تخريج الكفاءات الوطنية المطلوبة لإشباع سوق العمل.
وأخيراً، أجد من المهم أيضاً الانتباه إلى اختلاف أثر الأتمتة والتحديث على القطاعات المختلفة، والتعامل مع هذا الأثر وفق مبدأ الأولوية. فحتى اليوم نجد أكثر هذه القطاعات تأثّراً هو قطاع الخدمات الحكومية، ومن ثم القطاع المالي والمصرفي، ومجال الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات، وبشكل أقل في مجالات التعليم والصحة وغيرها. وبالتالي، فإن الاستثمار المنطقي للمهارات المحلية يجب أن يتركّز أولا في القطاعات التي تظهر ميلاً أشد للأتمتة، وذلك للاقتصاد في تكاليف عمليّة التدريب للمهارات الجديدة، أو تطوير المهارة للقوة العاملة الحالية.