فرقة «الجزيرة».. المسرح والمسرح الآخر

alarab
ثقافة وفنون 24 يونيو 2011 , 12:00ص
مصطفى أحمد الخليفة
حقيقة كان انبهارنا في أول تماس لنا مع المشهد المسرحي في دولة قطر، انبهاراً يوازي صدق التجربة المسرحية في هذه الدولة الفتية، ورسوخ جذور هذه التجربة ومتانة أعمدتها التي تقوم عليها من رواد لها ومسرحيين لهم باع طويل وتاريخ عريق في هذا الضرب من الفنون وهو فن المسرح الذي قام على ثقافة الناس وتاريخهم الحضاري والإنساني ويوثق لحياتهم وثقافتهم وينقل أفكار هذه الحضارة وهذه الثقافة والذائقة الجمالية والفنية والفكرية والفلسفية لهذه الأمة، فالمسرح هو فلسفة الحياة ونبضها الذي لا يتوقف. وفي أول حضور لنا في المشهد المسرحي القطري كان لقاؤنا مع فرقة مسرح الجزيرة وهي تحتفل باليوم العالمي للمسرح وتحتفل بإعلان ضربة البداية لهذه الفرقة الوليدة عقب ورشة مسرحية أقامتها لمنسوبيها في الحي الثقافي، وكان روادها ومؤسسوها فتية من موظفي شبكة الجزيرة لهم دراية كبيرة بعلم المسرح وتخصصاته بجانب دورهم المهني في القناة، وكان على رأسهم صاحب فكرة إنشاء هذه الفرقة الفنان سالم الجحوشي تحت رعاية شبكة الجزيرة ومديرها الأستاذ وضاح خنفر ومجلس إدارتها الموقر، وبرعاية خاصة من سعادة الدكتور حمد بن عبدالعزيز الكواري وزير الثقافة والتراث القطري، وما هذا بغريب على دولة تشهد نهضة حضارية واضحة المعالم وطفرة صناعية وتنموية واقتصادية واجتماعية، متسارعة الخطى، وحركة عمرانية تدل على ذوق رفيع في بساطته وفخامته في آن واحد ميز مدينة الدوحة عاصمة دولة قطر والمدن الأخرى في الدولة وجعلها ذات طعم ونكهة وتميز خاص بها عن عواصم وحواضر ومدن الدول الأخرى، وما بغريب هذا أيضاً في دولة تقوم على أسس راسخة متينة تستصحب فيها تاريخ وثقافة عريقين واستقرارا سياسيا واقتصاديا واضحين ومواقف ومبادئ سياسية شجاعة تحت النور والضوء بعيداً عن كواليس الأزمة السياسية المظلمة في منطقتنا العربية، بل ثبات ورسوخ وثقة وعقلانية سياسية واقتصادية تشبه العصر وتشبه الدور الوطني والإقليمي والعالمي تحت قيادة حضرة صاحب السمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أمير البلاد المفدى حفظه الله، في وقت انفتحت فيه الحضارات في العالم وتقاربت الحوارات ولم يعد العالم فيه حكراً على هيمنة القوى العظمى التقليدية بعدتها وعتادتها وآلاتها الإعلامية الضخمة، فكان في دولة قطر الموقف الإعلامي المستقل دون وصاية، وكانت قناة الجزيرة الفضائية، تلك القناة التي ولدت بإبداعاتها المتكاملة منذ أول إطلالة لها ومساهمتها في ثورة إعلامية حرة مستقلة تركت أثرها الكبير في تلك النقلة النوعية الإعلامية في المنطقة العربية والدفعة المعنوية للإنسان العربي خاصة والإنسان المسلم عامة في النهوض به عن قعدته وعن يأسه إلى آفاق فضاءات الحق والحرية ومنبراً حراً يشع من دولة قطر لتكون صرحاً إعلامياً عربياً يوازي تلك الصروح مجتمعة في رسالته وفلسفته التي تدعو للحوار وتبادل الرأي الحر، والرأي والرأي الآخر من خلال رسالة إعلامية واضحة وواثقة فكان نتاجاً طبيعياً أن يتمخض هذا الجبل الإعلامي ليلد لنا صرحاً مسرحياً وفرقة مسرحية ولدت بأسنانها وإبداعها تحت رعاية القناة دون أن تكون رافدا من روافدها أو صوتاً من أصواتها بل إبداعاً فنياً حرا خالصا ودورا طوعيا رساليا من قبل مؤسسيها وصاحب فكرتها الأولى الفنان سالم الجحوشي، من أجل إبداع عربي يؤسس لواقع عربي جديد ويوثق لحياة عربية تنهض من وسط ركام الماضي لتلحق بركاب الأمم فكان المسرح وكان المسرح الآخر، الذي يحكي عن عظمة هذه الأمة وعن عظمة إنسانها في مجالات الفكر ومجالات الرأي وفلسفة أن نتقبل الآخر؛ فكان أول عروض تلك الفرقة الأولى في يوم سبعة وعشرين مارس عن مسرح قطر الوطني وسط حضور كبير يتقدمه السيد وزير الثقافة والتراث سعادة الدكتور حمد الكواري، وكان مفتتحها مشهدا من نص مسرحي للكاتب المصري الشاعر الراحل صلاح عبدالصبور من رائعته الشعرية «مأساة الحلاج» وكانت الدعوة للرأي والرأي الآخر، وتقبل الآخر وهي دعوة ليست ببعيدة بل شعار قناة الجزيرة، وكان العرض وهذا المشهد يدل على نضوج الفكرة وعلى نضوج المبدعين الذين شكلوا لوحات هذا العرض إبداعاً وجمالاً وأداءً تمثيلياً مبهرا تحت إشراف مخرج هذا العرض الفنان سالم الجحوشي أحد مبدعي المشهد الفني القطري وصاحب فكرة قيام هذه الفرقة. وجاء العرض الثاني في هذه الليلة عرضاً إيمائياً «بانتومايم» وهو نوع من فنون المسرح الصامت في حواره الناطق في رسالته من خلال لغة جسد الممثل ومن خلال الإشارة والإيماء ومن خلال تضافر عناصر عرضه، وهو فن ساد في أوروبا والعالم الغربي كفن من أرقى فنون العرض فيه يستطيع المؤدي المسرحي أن يوصل فكرته ورسالته دون الحاجة إلى اللغة المنطوقة في لغة عالمية تصل إلى الجميع ولا يحول بينها حاجز اللغة، وقد استنهضت فرقة مسرح الجزيرة هذا الفن من فنون المسرح الصعب الذي يحتاج إلى خبرة علمية ومنهجية مكثفة وتدريب متواصل وتركيز عالٍ من مؤديه ومبدعه لخلق شراكة ذهنية وبصرية وسمعية بينه وبين المتلقي، وهي قوام هذا النوع من العروض والفن، فكان الفنان الشاب سمير بلفاطمي صاحب فكرة العرض والأداء وكان موفقاً في توصيل فكرة وفلسفة ورسالة العرض وكان عرضاً كوميدياً خفيفاً لطيفاً يدل على تمكنه من هذا النوع من العروض الصعبة الذي يعتمد على فن التمثيل ولغة الجسد. ثم جاءت المساهمة الثالثة في تلك الليلة من الفنان المخرج المؤلف لعرض «يسقط.. يسقط» الأستاذ خليل حنون في عرض شيق ولوحات بليغة بصرياً تحكي أزمة بعض الزعماء في المنطقة العربية وقد جرفها تيار الثورات الشبابية المتسارع في بلدانها، وتحكي هذه الزعامات المنفية في تداعٍ مسرحي أزمتها وهي تقف أمام واجهة مبنى الأمم المتحدة وينطبق عليها المثل السائد «ضربني وبكى وسبقني واشتكى» تندب حظها وتشكو زمانها وشعوبها؛ حيث لا تنفع الشكوى ولا ينفع الندم، والجزيرة كقناة كانت سباقة في الوقوف مع تلك الشعوب في أشواقها وتوقها للحرية والكرامة كمنبر للرأي الحر والرأي الآخر في حيادية مهنية واستقلالية إعلامية، فكانت الجزيرة المسرحية كفن وإبداع حر آخر هي الأخرى سباقة في تعرية تلك الأنظمة وزعمائها وتقديم الحقيقة عارية دون غطاء وزيف رغم اختلاف الوسيطين واستقلال كل منهما عن تأثير الآخر، من أجل أفق وفضاء عربي واسع يستوعب الجميع، فضاء يحكم نفسه بنفسه، فضاء يستنهض عزائم شبابه، يستنهض تاريخه، يستنهض حضارة ملكت وثقافة حكمت الكون في يوم من الأيام في تاريخنا الإسلامي، نشرت العدل والحق والحرية والمساواة ووحدت شعوب العالم وحضاراته وخلقت مجتمعاً إنسانياً ينعم فيه الإنسان بالأمن والأمان في دينه وعرضه وإنسانيته، وما زالت تسعى لاستنهاض همم الناس وتعيد شمس الإسلام والعروبة الحقة، فكانت فلسفة وفكرة فرقة مسرح الجزيرة التي انتهجتها هي خلق وعي عربي من خلال مسرح يلامس الواقع العربي وينسج من خيوطه ومستجداته مسرحا عربيا واقعيا كما بشر الأستاذ وضاح خنفر مدير شبكة الجزيرة وراعي هذه الفرقة الوليدة. والعمل القادم لهذه الفرقة التي ولدت عملاقه هو إلقاء الضوء وأخذ العبر من تجربه سفينة «مرمرة» التركية التي حاول فيها أصحاب فكرتها من شتى الأجناس شرقاً وغرباً، حاولوا فيها كسر طوق الصلف الإسرائيلي بنصرة إخوانهم الفلسطينيين الذين حوصروا في غزة وإيصال كلمتهم إلى العالم الحر أن هناك في غزة من يموت من أطفال ونساء وشيوخ ورجال من أجل مطالبتهم بحقهم وتمسكهم بأرضهم تحت قصف دبابات وطائرات العدو الإسرائيلي وأوصلوا كلمتهم للعالم، والتقطت فرقة مسرح الجزيرة هذه الصيحة من أجل الحق لتصيغها بشراكة فنية تركية عملا دراميا في مقبل الأيام القادمة إن شاء الله، تسبقه ورشة مسرحية لتدريب وإعداد وتأهيل الممثلين تحت إشراف الفنان سالم الجحوشي، والفنان نبيل حنون في تمارين وإعداد الممثل والارتجال، والفنانة السيدة «أتريكا باربا جيللو» في التعبير الحركي والمسرحي، وتتواصل التدريبات أسبوعياً بدار الفرقة التي تم افتتاحها بلوحة تعبيرية حركية من وحي أحداث سفينة مرمرة بإشراف السيدة أتريكا والأستاذ خليل حنون في عرض وحفل سعادة الدكتور وزير الثقافة والفنون والتراث والأستاذ وضاح خنفر مدير شبكة الجزيرة واعدين فيه بالدعم والرعاية والمساندة مادياً ومعنوياً من قبل الوزارة ومجلس إدارة القناة لهذه الفرقة الوليدة التي بإذن الله ستكون رافدا من روافد الإبداع القطري والفن المسرحي الذي يبشر بواقع عربي جديد ومستقبل ينعم فيه الناس بالكرامة والحرية. التحية لهذه الفرقة الوليدة وهي تقول لنا هذا سفري الفني فلهم منا كل الأمنيات بالتوفيق وهم يؤدون رسالتين في وقت واحد في قناة الجزيرة في دولة قطر وفي فرقة مسرح الجزيرة أيضاً، وكل هذا الإشعاع وكل هذا الجمال وكل هذا الفن إخوتي وأنتم كبائع المسك إما أن تشتري منه وإما أن تجد عنده ريحاً طيباً، وقد اشترينا واستنشقنا نسائم إبداعكم. مسرحي سوداني مقيم بالدوحة