يعتبر هذا الكتاب جزءا من كتابي «الدولة الأموية؛ عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار»، إذ يتحدث عن العهد الإصلاحي الذي مثلته القيادة الراشدة للخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز (رضي الله عنه)، فتحدثت عن حياته، وسيرته، وطلبه للعلم، وعن أهم أعماله في عهد الخلفاء الذين سبقوه من بني أمية وهما: الوليد وسليمان أبناء عبد الملك بن مروان بن الحكم، وعن خلافته، وبيعته، ومنهجه في إدارة الدولة، واهتمامه بالشورى، والعدل، وسياسته في رد المظالم، وعزل الولاة الظالمين، ورفع المظالم عن الموالي، وإكرام أهل الذمة، وإقامة العدل لأهل سمرقند.
وعن الحريات في دولته، كالحرية الفكرية والعقدية والسياسية والشخصية، وحرية التجارة والكسب، وتناولت أهم صفاته، كشدة خوفه من اللهِ تعالى، وزهده، وتواضعه، وورعه، وحلمه وصفحه وعفوه، وصبره، وحزمه، وعدله وتضرعه ودعائه واستجابة الله له. كما تحدثت عن معالم التجديد عند الخليفة عمر بن عبد العزيز، مثل الشورى، والأمانة في الحكم، وتوكيل الأمناء، وإحيائه مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ومبدأ العدل، وعن شروط المجدد في الاستقامة وحسن التدبير والعدل والاستشارة وبذل المعروف وأداء الحقوق وموازنة المصالح ودفع المفاسد.
رفع الظلم .. ورد الحقوق
لقد أفردت مبحثاً خاصاً لإصلاحات الخليفة الأموي عمر بن عبد العزيز المالية، وسياسته الحكيمة في ذلك، وحرصه على ترسيخ قيم الحق والعدل، ورفع الظلم، فبينت أهداف السياسة الاقتصادية عنده، من إعادة توزيع الدخل والثروة بشكل عادل، وتحقيق التنمية الاقتصادية، والرفاه الاجتماعي، وأشرت لتحقيق تلك الأهداف كتوفير المناخ المناسب للتنمية، ورد الحقوق لأصحابها، وفتح باب الحرية الاقتصادية بقيود، واتباع سياسة زراعية جديدة تمنع بيع الأرض الخراجية، وتعتني بالمزارعين، وتخفف الضرائب عنهم، وعن حث الناس على الإصلاح والإعمار، وإحياء أرض الموات، وتوفير مشاريع البنية التحتية.
وفي الكتاب، تحدثت عن سياسة عمر بن عبد العزيز في الإنفاق العام، كإنفاقه على الرعاية الاجتماعية، وترشيد الإنفاق في مصالح الدولة، كقطع الامتيازات الخاصة بالخليفة وبأمراء الأمويين، وترشيد الإنفاق الإداري والحربي، وتكلمت عن المؤسسة القضائية في عهده وكذلك عن بعض اجتهاداته الفقهية كرأيه في الهدية لولاه الأمر، ونقض الأحكام إذا خالفت النصوص الشرعية، وغير ذلك من الاجتهادات الفقهية والقضائية.
في هذا الكتاب، تحدثت عن سياسة عمر بن عبد العزيز الإدارية، وأشهر ولاته، وحرصه على انتقاء عماله من أهل الخير والصلاح، وإشرافه المباشر على إدارة شؤون الدولة، وعن قدراته في التخطيط والتنظيم، وعن أسلوبه في الوقاية من الفساد الإداري، كالتوسعة على العمال في الأرزاق، وحرصه على الوقاية من الكذب والنفاق، والامتناع عن أخذ الهدايا والهبات، والنهي عن الإسراف والتبذير، ومنع الولاة والعمال من ممارسة التجارة، وفتح قنوات الاتصال بين الوالي والرعية، ومحاسبته للولاة من قبله عن أموال بيت المال، وتطرقت إلى مفهومِ المركزية واللامركزية في إدارة عمر بن عبد العزيز، واهتمامه بمبدأ المرونة، وتوظيفه للوقت في خدمة الدولة والرعية، وممارسته لمبدأ تقسيم العمل في الإدارة، وحرصت على بيان بواعث عمر بن عبد العزيز في إصلاحه وتجديداته المالية والسياسية والإدارية.. إلخ، وأشرت إلى حرصه على تنفيذ أحكام الشريعة على الدولة والأمة والمجتمعات والأفراد، وأشرت إلى آثار التمسك بأحكام القرآن الكريم والسنة النبوية وهدي الخلافة الراشدة على دولتهِ، من التمكين والأمن والاستقرار، والنصر والفتح، والعز والشرف وبركة العيش ورغده، وعشت مع الأيام الأخيرةِ من حياة هذا المصلح الكبير حتى وفاته.
إن ظهور عمر بن عبد العزيز في تلك المرحلة التاريخية الحرجة من تاريخ الأمة الإسلامية، ومحاولاته العظيمة للعودة بالحياة إلى حكم الشريعة، وقواعد الخلافة الراشدة الملتزمة بمعطيات الكتاب العزيز والسنة النبوية المطهرة؛ ظاهرة فذة تحمل في دلالتها ليس على بطولة القائد فحسب، وإنما على قدرة الإسلام نفسه على العودة باستمرار لقيادة الحياة السياسية والتشريعية والحضارية في نهاية الأمر، وصياغتها بما ينسجم ومبادئه الأساسية.
إن خلافة عمر بن عبد العزيز حجة تاريخية على من لا يزال يردد الكلمات والادعاءات القائلة: إن الدولة التي تقوم على الأحكام الإسلامية والشريعة عرضة للمشاكل والأزمات وعرضة للانهيار في كل ساعة، وإنها ليست إلا حُلماً من الأحلام، ولا يزال التاريخ يتحدى هؤلاء، ويقول لهم: {قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [البَقـَـرَة: 111]
ولقد سار السلطان الزنكي نور الدين زنكي (المتوفى: 568هـ) على منهج عمر بن عبد العزيز الراشد، واعتبره نموذجاً ومثالاً له في القدوة والتأسي وإدارة الدولة، فآتت محاولته الإصلاحية ثمارها للأمة، وساهمت في نهوضها، وعودة الوعي لها، وتغلبت على أعدائها الصليبيين، وطهرت بيت المقدس على يد تلميذه، القائد الإسلامي العظيم صلاح الدين الأيوبي (رحمهم الله ورضي عنهم).
الغاية من إرسال الرسل
إن الإصلاح ـ كما يفهمه المسلمون الصادقون لا كما يروّج أعداء الإسلام ـ هو الغاية من إرسال الله تعالى الرسل إلى الناس. إذ قال شعيب (عليه السلام) لقومه الغارقين في الضلال والفساد في العقيدة والسلوك: {قَال ياقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ *} [هـُـود: 88]
وقد اضطلع بمهمة الإصلاح لشؤون البشر ـ بعد مصلح الإنسانية الأعظم محمد ﷺ،ـ وسار على منهج النبوة خلفاؤه الراشدون، وخلفاء وقادة الأمة الأبرار مثل عمر بن عبد العزيز، والأمة الآن في أشد الحاجة لمعرفة هدي المصلحين والقادة الربانيين؛ اِبتداء من النبي الكريم ﷺ، فقد أصابها التخلف والتيه، والتفرق والضعف، والاستكانة.
إن فقه حركة التاريخ الإسلامي يُرشدنا إلى أن عوامل النهوض وأسباب النصر كثيرة منها صفاء العقيدة، ووضوح المنهج، وتحكيم شرع الله في الدولة، ووجود القيادة الربانية التي تنظر بنور الله، وقدرتها في التعامل مع سنن الله في تربية الأمم، وبناء الدول وسقوطها، ومعرفة عِلل المجتمعات، وأطوار الأمم، وأسرار التاريخ، ومخططات الأعداء من الصليبيين واليهود والملاحدة والفرق الباطنية، والطرق المبتدعة، وإعطاء كل عامل حقه الطبيعي في التعامل معه، فقضايا فقه النهوض، والمشاريع النهضوية البعيدة المدى متداخلة متشابكة لا يستطيع استيعابها إلا من فهم كتاب الله عز وجل وسنة رسوله (ص)، وهدي الخلفاء الراشدين، ومن سار على نهجهم، وقيمة البناء الحضاري الصحيح هي التي أبقت صرح الإسلام إلى يومنا هذا بعد توفيق الله وحفظه.
المفهوم القرآني
إن سيرة عمر بن عبد العزيز تمدنا بالمفهوم الصحيح لكلمة الإصلاح للمفهوم القرآني الأصيل؛ الذي فهمه علماؤنا المصلحون فهماً صحيحاً، وطبّقوه تطبيقاً مدروساً سليماً، لا المفهوم الغربي الحديث الذي تسرَّب إلى أبنائنا اليوم؛ بأن الثورة أعمّ وأشمل وأعمق من الإصلاح الذي يرادف في الغرب معنى التغيير الخفيف الذي يحدث بتدرج ومن دون عنف، بينما الثورة هي عندهم انقلاب جذري دون تدرّج، ويكون عنيف ومفاجئ، وما دروا بأن الإصلاح بالمفهوم القرآني الصحيح له معنى أشمل وأعمّ وأكبر من الثورة، فهو دائماً يتَّجه نحو الأحسن والأكمل، بينما الثورة قد تكون من الصالح إلى الفاسد أصلاً، ويتم ذلك بتغيير سلطة بسلطة، وحاكم بحاكم.
إن عمر بن عبد العزيز (رضي الله عنه) نموذج إصلاحي لمن أراد السير على منهاج النبوة، وعهد الخلافة الراشدة، فهو أخلص لله تعالى في مشروعه الإصلاحي والنهوضي والإنساني والحضاري، فتولى الله توفيقه، وأطلق ألسنة الناس بمدحه والثناء عليه، حيث قال الأديب والشاعر الليبي أحمد رفيق المهدوي:
فإذا أحب الله باطن عبده
ظهرت عليه مواهب الفتاح
وإذا صفت لله نية مصلح
مال العباد عليه بالأرواح
انتهيت من إعداد الكتاب في طبعته الأولى في عام 1426هـ/ 2005م، وإني أسأل الله تعالى أن يجعل هذا العمل لوجهه خالصاً ولعباده نافعاً، وأن يثيبني وإخواني الذين ساعدوا على نشره بمنه وكرمه وجوده، ونرجو من كل مسلم يطلع على هذا الكتاب أن لا ينسى العبد الفقير إلى عفو ربه ومغفرته ورحمته ورضوانه من دعائه {رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ} [النمل: 19]، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.