إضاءة في كتاب.. الأبعاد الإنسانية والحضارية في شخصية النبي ﷺ

alarab
الملاحق 22 نوفمبر 2024 , 01:23ص
د. علي محمد الصَّلابي

تُعَد سيرة نبينا محمد ﷺ سجلًا حافلًا بالقيم الإنسانية والحضارية والأخلاقية والروحية، تلك القيم التي ساهمت في إعداد أمة متميزة كان لها دور حضاري وإنساني كبير أثَّر في النهوض الاجتماعي والأخلاقي والفكري للبشرية. فمنذ أن أشرق نور الإسلام على البشرية، على يد نبينا محمدٍ ﷺ، جاءت رسالته حاملة لمبادئ عظيمة لم تقتصر على بناء الفرد المسلم فحسب، بل امتدت لتشمل مختلف جوانب الحياة، مؤسِّسةً لنظام حضاري شامل يرتكز على الرحمة والعدل والمساواة، والتآخي، والإحسان، ونصرة المظلوم، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، واحترام الاختلاف في إطار الشريعة السمحة، وتحقيق التنمية الفكرية والاقتصادية والاجتماعية.

إنَّ القيم التي جسّدها النبيُّ ﷺ في حياته وتعاملاته مع الناس تمثل نموذجًا فريدًا يُستلهم منه العديد من الدروس والعبر، التي تظل تنير المجتمعات المعاصرة في مساعيها لتأسيس مجتمع تسوده قيم الرحمة والتسامح والعدل والمساواة. وقد سبق الإسلام جميع التشريعات الدينية، سواء السماوية منها أو الوضعية، في ترسيخ مجموعة من القيم الأخلاقية النبيلة. حيث جاءت العقيدة الإسلامية لتدعو إلى هذه القيم السامية والأخلاق الفاضلة، التي تعزز كرامة الإنسان وتولي اهتمامًا كبيرًا بالإنسانية.
وقد أعلن الله تعالى عن دور النبي ﷺ بقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ﴾ [الأنبياء: 107]؛ إنه إعلان فريد من نوعه، ورد في كتاب خالد قدّر الله سبحانه وتعالى له أن يُتلى في كل مكان وزمان، ويبلغ عدد قرّائه ملايين الملايين. إن اتساع هذا الإعلان، وإطاره الكبير، ومساحته الزمنية والمكانية، تجعله إعلانًا خارقًا للعادة، فلا يمكن للإنسان الواعي أن يمر به مرورًا عابرًا. إذ إن مساحته الزمنية تشمل جميع الأجيال والأدوار التاريخية التي تعقب البعثة المحمدية، ومساحته المكانية تسع العالم كله؛ فقد قال الله سبحانه وتعالى ﴿لِلْعَالَمِينَ﴾، ولم يقل لجزيرة العرب، أو للشرق، أو للغرب، أو لقارة ما.
والحقيقة أن سعة هذا الإعلان وشموله، وعظمته وسموّه، واستمراره وخلوده؛ كل ذلك يستوجب أن يقف عنده مؤرخو العالم، وفلاسفته، ونوابغه، مدهوشين في حيرة. بل إن الفكر الإنساني كله يقف أمامه حائرًا ومندهشًا، ويتوقف طويلاً في البحث عن مدى صدق هذا الإعلان، أو صحة هذا الواقع. إذ لم نجد في تاريخ الحضارات والفلسفات، ولا في تاريخ الحركات الإصلاحية والمحاولات الثورية، بل في تاريخ العالم بأسره، وفي المكتبة الإنسانية كلها، إعلانًا كهذا يحيط بالكون كله، وبالأجيال البشرية كافة، وبكل الأدوار التاريخية، حول أي شخصية من شخصيات العالم. وحتى التعاليم المستخلصة من الأنبياء السابقين، وبعض أحوالهم وسيرتهم التي وصلت إلينا، تظل مجردة عن مثل هذا الإعلان. إنه إعلان جاء ليؤكد أن النبي محمدًا ﷺ ليس مجرد شخصية تاريخية عابرة، بل هو رسول للإنسانية كافة، جاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ويرشدهم إلى طريق الحق والخير.
ومن هنا، فإن أي محاولة لفهم هذا الإعلان لا تقتصر على دراسة سيرة النبي ﷺ فحسب، بل تتطلب دراسة عميقة لجوانب رسالته وتأثيرها الحضاري الذي امتد ليغير مجرى التاريخ. فالنبي ﷺ لم يكن مجرد مصلح اجتماعي أو قائد عسكري، بل كان رمزًا للرحمة الإلهية التي تجلت في تعاليمه وأخلاقه وشريعته، والتي ستظل إلى يوم القيامة منارة تهتدي بها الأمم، ومصدر إلهام لكل حركة إصلاحية أو فلسفة تسعى لتحقيق العدالة والرحمة في العالم.

جوانب حضارية وإنسانية
يسلط الكتاب الضوء على الجانب الحضاري والإنساني من سيرة نبينا محمد ﷺ، موضحًا كيف أن رسالته كانت حركة إصلاحية شاملة، أسست مجتمعًا قائمًا على مبادئ العدالة والرحمة، وتجسدت قيمه الإنسانية في تعامله مع مختلف فئات المجتمع، مما جعله نموذجًا عالميًا للحضارة والرقي الإنساني.
نشأت فكرة هذا الكتاب بناءً على طلب من الأستاذ الفاضل أحمد بن خليفة العسيري، المستشار في حي كتارا الثقافي، الذي اقترح إعداد كتاب يتناول الأبعاد الإنسانية والقِيمية والحضارية في شخصية النبي محمد ﷺ. وبعد نقاشات معمقة حول الفكرة، تبيَّن لي أن الأستاذ أحمد لديه استيعاب كبير لروح الفكرة، وأبعادها، وتأثيراها بعمق، ولديه رغبة صادقة في نشر الهدي النبوي بين أبناء الإنسانية في وقتنا الحاضر. وقد اتفقنا بعد تواصل ونقاش على تنفيذ هذا المشروع المهم، الذي يهدف إلى التعريف بسيرة ورسالة نبينا محمد ﷺ من خلال التركيز على القِيم التي تلامس الفطرة الإنسانية السليمة، وتُنير العقل البشري نحو توحيد الله، والفوز برضاه، وإصلاح النفوس، وتطهير الأفئدة، واستخلاص الدروس والعبر والفوائد من ذلك.

صاحب الفكرة
الفضل لله سبحانه وتعالى أولاً، ثم لأخي الأستاذ أحمد (صاحب الفكرة)، وبناءً على خبرتي العميقة في السيرة النبوية، واهتمامي الواسع بها، حيث كَتبت عنها كتاباً موسوعياً، فقد كلفتُ أخي الباحث الدكتور طالب عبد الجبَّار الدُّغيم باستخراج النصوص المتعلقة بالأبعاد الإنسانية والحضارية من ذلك الكتاب الموسوعي. وقد أجرينا نقاشات مكثفة لترتيب محاور وفصول الكتاب الجديد. ولم يكتفِ الباحث المساعد بذلك، بل أضاف بعض المحاور، والمباحث المهمة في جوهر الموضوع، مستفيدًا من الكتابات والأطاريح والدراسات العِلمية التي صدرت خلال العقدين الماضيين. وقد بَذل جُهدًا متواصلًا في ترتيب هذه النصوص، وتنسيقها، وتحريرها. ولهذا أوجه له الشكر الجزيل على جُهده الطيب. كما أخص بالشكر الباحث الكريم الأستاذ محمد عليان الذي ساهم معنا في هذا الإنجاز. جزاهم الله خيرًا.

تمهيدي و6 فصول
وقد تم تقسيم هذا الكتاب إلى فصل تمهيدي، وستة فصول ضمن الكتاب على النحو الآتي:
الفصل التمهيدي: بحث في الوضع الإنساني في الحضارات السائدة، قبل بعثة النبي ﷺ، ومنها الإمبراطورية الرومانية، والإمبراطورية الفارسية، والحضارة الهندي، وجزيرة العرب، والأحوال الدينية، والسياسية والاقتصادية، والاجتماعية في جزيرة العرب.
الفصل الأول: كان الحديث فيه عن القيم الإنسانية في الإسلام ودعوة النبي المصطفى ﷺ، والتي تجلّت من خلال: الشمولية في الخطاب الإسلامي، والتكريم المعنوي والمادي لبني آدم، والفطرة السليمة، والمساواة في التكليف، ونظرة الإسلام للاختلاف والتعدد، وسماحة الإسلام، والحرية في نظرة الإسلام، والعدل في الإسلام، والحوار وآدابه في الإسلام.
الفصل الثاني: تحدثت فيه عن سيرة النبي ﷺ قبل البعثة، من ولادته إلى قبيل نبوته، بما يظهر شخصيته العظيمة ﷺ، وما يتمتع به من صفات كريمة قبل النبوة، وجاء الحديث فيه، عن نسبه الشريف، وميلاده الكريم، ومرضعاته، وعمله في الرعي، وحفظ الله له في شبابه، وتهيئته لاستقبال النبوة.
الفصل الثالث: بحثت في القيم الإنسانية والأخلاقية والحضارية في سيرة النبي ﷺ قبل بعثته، وذلك من خلال ذكر أخلاقه، وعمله، ومشاركته في حلف الفضول، ومشاركته في بناء الكعبة المشرفة، وصفاته التي اشتهر بها مثل «الصدق والأمانة».
   الفصل الرابع: جاء الحديث فيه عن تجليات القيم الإنسانية والحضارية في السيرة النبوية في العهد المكي، وتجلت من خلال إبراز قيمة وفاء النبي ﷺ من خلال حياته مع زوجه خديجة رضي الله عنه، والقيم الحضارية والإنسانية المؤسسة للجماعة المسلمة الأولى، والقيم الحضارية والإنسانية من خلال التربية النبوية، واستخلاص النموذج الإنساني والحضاري، من خلال هجرة الصحابة الأولى إلى الحبشة، والبعد الإنساني والحضاري للدعوة النبوية.
الفصل الخامس: جاء الحديث فيه عن تجليات القيم الإنسانية والحضارية في سيرة النبي ﷺ في العهد المدني، واستخلصت القيم الإنسانية والحضارية في بيعتي العقبة الأولى والثانية، والبعد الإنساني للهجرة النبوية إلى المدينة، والبعد الحضاري والإنساني للمجتمع الإسلامي الأول في المدينة، والأبعاد القيمية والإنسانية والحضارية في دستور المدينة الأولى، والأبعاد الإنسانية والحضارية في الحياة الاجتماعية والسياسية في المدينة المنورة.
 الفصل السادس والأخير: تناولت فيه أخلاق النبي ﷺ التي جسَّدت القدوة الإنسانية الصالحة، والقيادة الملهمة لكثير من أبناء الإنسانية، وتجلى ذلك من خلال الوقوف على حكمته وشجاعته، ورحمته، وكرمه ﷺ. وختمت هذا الفصل، بتسليط الضوء على القيم الإنسانية والحضارية العميقة التي تناولتها خطبة الوداع، موضحة كيف قدمت هذه الخطبة إرشادات شاملة حول الحقوق الإنسانية، والعدالة الاجتماعية، والمساواة بين الناس.