د. نزار شقرون: عمل غير أخلاقي يصل لدرجة الجريمة
إيمان الهيدوس: سطو على جوهر التجربة الإبداعية
سعيدة البدر: له تبعات أخلاقية تؤثر على مصداقية الفنان المنتحل
د. فخرية اليحيائية: صالات العرض مطالبة بالتحقق من أصالة الأعمال
على الرغم من وجود قوانين حقوق الملكية الفكرية التي تحمي الفنانين من الانتحال والسرقة الفكرية عبر تسجيل الأعمال وتوثيقها قانونيًا، إلا أنه ما زال هناك تنامٍ لظاهرة الانتحال في المشهد الفني العربي يزيد من مخاوف تآكل قيمة الإبداع الفردي وتهميش حقوق الفنانين الحقيقيين. ورغم التطور الرقمي واتساع أدوات الإنتاج، إلا أن الحدود الأخلاقية والقانونية في عالم الفن باتت مهددة بانتهاكات تتراوح بين النسخ الصريح وسرقة الأفكار.
ويرى فنانون ونقاد في تصريحات
لـ «العرب»، أن الانتحال لم يعد مجرد تصرّف فردي عابر، بل يمثل سلوكا اجتماعيا مقلقا يتغذى على ضعف الثقافة البصرية وغياب مؤسسات النقد والرقابة، مؤكدين أهمية التصدي لمثل هذه الظاهرة من خلال تفعيل القانون وإجراءات حقوق الملكية الفكرية حفاظا على حقوق المبدع الحقيقي من أزمة أخلاقية تهدد الإبداع.
ويطرح الفنانون والنقاد، أبعاد الظاهرة، دوافعها، وآليات مقاومتها، منبهين إلى خطورة غياب الردع القانوني والتقني، ومؤكدين أن حماية الإبداع تستوجب وقفة جادة من كافة الأطراف، لحماية الفن من الانزلاق نحو التزييف وفقدان المعنى.
الاقتباس والانتحال
بدوره، وصف الكاتب والناقد الفني التونسي الدكتور نزار شقرون، الانتحال الفني بأنه فعل قصدي ينتهك أخلاقية الفن ويهدد فرادة الإبداع، مشيرًا إلى أن أي عمل فني يقوم على «القصدية» وهو شرط ولادته، وأن الممارسة الفنية تتطلب خيارًا واعيًا صادرًا عن شخص يؤمن بأن الفن رسالة وليس مجرد هواية.
وأضاف شقرون، أن هناك فرقًا بين «الاقتباس» و«الانتحال»، حيث الاقتباس نوع من التناص مع تجارب فنية أخرى وهو أمر مشروع، أما الانتحال فهو عمل غير أخلاقي يصل لدرجة الجريمة ويُعتبر سرقة مقصودة تعتمد على جهل المشاهد.
وأشار الدكتور شقرون إلى أن غالبية حالات الانتحال تصدر عن أشخاص غير أسوياء ودخلاء على المشهد الفني، مستغلين الفن كوسيلة للوجاهة الاجتماعية والترويج لأسمائهم ومصالحهم، مؤكدا أن الاعتماد على الذكاء الاصطناعي في العملية الفنية يعزز هذه الظاهرة، حيث يصبح إنتاج الفن عملية غير فردية ذات أهداف ربحية واجتماعية بحتة لأنها تسمح لأشخاص معينين من تزويق مشهد حضورهم الاجتماعي.
وتحدث الدكتور شقرون عن الانتحال في العالم العربي، واصفًا إياه بأنه جزء من حالة مجتمعية تعكس تهاوي الأخلاق وفقدان الثقافة البصرية التي تسمح بفضح الأعمال المنتحلة، منوها بأن هناك درجات «انتحال» تبدأ من انتحال الصفة وتمر بانتحال أعمال فنانين اخرين، وهناك انتحال غبيّ يوقع صاحبه في «السرقة الموصوفة» وانتحال «ذكي» يستخدم فيه البعض فطنتهم في السرقة المبطنة، وكلاهما فعل غير أخلاقي له تبعاته السلبية على المشهد الفني العربي، حيث يفقد المتلقي العربي ثقته في الفن بوصفه تعبيرا إبداعيا فرديا له دوره الاجتماعي، وهذه الظاهرة تشوّش على التحارب الفنية الأصيلة، مشددًا على أن كشف الانتحال ممكن بشرط وجود النقد والثقافة البصرية، وهو أمر متوفر في المجتمعات الغربية لكنه شبه غائب في مجتمعاتنا.
واختتم تصريحاته بالتأكيد على الحاجة إلى رفع مستوى الثقافة البصرية، وتأسيس مؤسسات فنية احترافية تعمل كغربال لفرز الأعمال، إلى جانب وجود نقاد حقيقيين وإعلام ثقافي مقتدر، معتبراً أن الانتحال ليس ظاهرة عابرة بل سلوك اجتماعي يعبر عن فساد مجتمعي يحتاج إلى مقاومة نقدية واجتماعية مستمرة..
الروح الإبداعية
ومن جانبها، أوضحت الفنانة القطرية إيمان الهيدوس أن الانتحال الفني من وجهة نظرها، هو «جريمة تُرتكب في حق الفنان، لأنها تسطو على جوهر التجربة الإبداعية وليس فقط على مخرجاتها الشكلية، مؤكدة أن استنساخ العمل فيه من الصعوبة بمكان حتى على الفنان نفسه أحيانا يصعب عليه أن يعيد نفس اللوحة التي قدمها لأنه يكون في حالة خاصة بكل عمل مشددة على أن «الاستنساخ الكامل لعمل فني دون تعديل أو إبداع يدخل تمامًا في دائرة الانتحال، لأنه لا يُنتج قيمة جديدة، بل يسرق ما هو موجود أصلًا.
وأضافت الهيدوس: «حتى في حال سرقة الفكرة دون الشكل، فإن ذلك يُعدّ نوعًا من الانتحال كذلك، خاصة إذا كانت الفكرة فريدة وخاصة، لأن الفن ليس مجرد ألوان وأشكال، بل هو أفكار وتجارب وتصورات شخصية نابعة من عمق الفنان، مشيرة إلى أنها تعرضت شخصيا لسرقة بعض لوحاتها ولكنها عادت مع نشر صورة اللوحة والتعريف بها
وأوضحت الهيدوس أن من أبرز دوافع الانتحال «السعي وراء الشهرة السريعة دون تعب، نجاح حققها فنان آخر، خاصة في ظل ضعف الوعي بحقوق الملكية الفكرية لدى بعض الجمهور وحتى بعض العاملين في المجال الفني فقالت شخصيا نادرا ما أقوم بتسجيل أعمالي والحفاظ على ملكيتها الفكرية وغالبا كثير من الفنانين لا يقومون بالتسجيل أيضا.
وأكدت الهيدوس أن الانتحال لا يؤذي الفنان فقط، بل «يهدد مصداقية الساحة الفنية ككل، وأن حماية الفنان وحفظ حقوقه يجب أن تكون مسؤولية مشتركة، تبدأ بوجود قوانين واضحة وصارمة تحمي حقوق الملكية الفكرية، مرورا بالتوعية المجتمعية، ووصولا إلى تفعيل دور المؤسسات الفنية والثقافية في تتبع الانتهاكات ومعالجتها.
دوافع الانتحال
من جهتها، أكدت الفنانة القطرية سعيدة البدر أن الانتحال في الفنون التشكيلية يعني «نسب العمل الفني أو الفكرة إلى النفس دون إذن أو إشارة لصاحبها الأصلي»، سواء بالنسخ الكامل أو الجزئي، مع اعتبار الاستنساخ التام للعمل الفني بدون تعديل أو إضافة إبداعية انتحالًا صريحًا حتى وإن لم يتم توقيع العمل باسم الفنان الأصلي.
وأوضحت البدر أن سرقة الفكرة تقع في منطقة رمادية لكنها تُعد انتحالًا إذا كانت الفكرة فريدة وخاصة وواضحة المعالم، مثل استلهام فكرة فنية تعبيريّة تحمل رموزًا ابتكرها فنان معين، حتى لو نُفذت بأسلوب مختلف لكنها تحمل نفس الرسالة والهدف.
وذكرت أن الدوافع وراء الانتحال متنوعة، منها ضعف الإبداع، قلة الخبرة، الجهل بحقوق الملكية الفكرية، الطمع المادي، والكسل الفني الذي يدفع البعض للاعتماد على أفكار الآخرين دون جهد. وكشفت عن تعرضها شخصيًا لانتحال أعمالها بعدة طرق، منها إعادة استخدام أعمالها المنشورة على الإنترنت أو الصحف بدون استئذان، وأحيانًا مع إزالة التوقيع، وأصعبها استخدامها تجاريًا في منتجات دون علمها، مشيرة إلى حادثة استخدام إحدى رسوماتها على أكياس شيبسي في سوق شعبي في البحرين.
وأشارت إلى أن الانتحال يحمل تبعات قانونية قد تصل للمساءلة والغرامات، وأخلاقية تؤثر على مصداقية الفنان المنتحل وسمعته المهنية. وحثت على حماية حقوق الفنان من خلال توثيق العمل بتواريخ ووسائط مختلفة، تسجيل الأعمال رسميًا، استخدام التوقيع الفني، التوعية القانونية، والالتزام بالعقود القانونية عند المعارض أو البيع.
ولفتت إلى أهمية مواجهة الظاهرة بنشر ثقافة احترام الملكية الفكرية، سن قوانين واضحة وصارمة، وتشجيع الأصالة والابتكار كقيم أساسية في المجتمع الفني.
الانتحال الأسلوبي
أما الناقدة والفنانة العمانية الدكتورة فخرية اليحيائية أستاذة الفنون بجامعة السلطان قابوس، أكدت أن إعادة إنتاج عمل فني دون إذن مسبق من صاحبه تُعد تعديًا قانونيًا وأخلاقيًا على حقوق الملكية الفكرية، معتبرة أن استخدام الذكاء الاصطناعي لإنتاج أعمال تُشبه أسلوب فنانين بعينهم دون موافقتهم يدخل في باب الانتحال الأسلوبي، حتى وإن لم تكن هناك نسخة مطابقة لعمل معين.
وأوضحت اليحيائية، أن الذكاء الاصطناعي يمكن أن يُستخدم كأداة مشروعة للتجريب والاستلهام، بشرط وجود شفافية تامة توضح مصادر البيانات وحدود استخدامها، مشددة على دور صالات العرض والمنصات الرقمية في تحمل المسؤولية القانونية والأخلاقية عن التحقق من أصالة الأعمال المعروضة، معتبرة أن غياب هذا الدور يجعلها شريكة في عمليات الانتحال عن قصد أو إهمال.
وأشارت إلى أن الخبرة البصرية والتاريخية تلعب دورًا محوريًا، حيث يعتمد النقاد والخبراء على معرفتهم العميقة بأساليب الفنانين، وتكويناتهم اللونية، وتقنياتهم الخاصة، لتحديد مدى أصالة العمل. لكن هذا المسار، رغم أهميته، أصبح اليوم غير كافٍ. لذا ظهرت اليوم تقنيات متقدمة للكشف عن الانتحال، منها تحليل الطبقات اللونية باستخدام الأشعة تحت الحمراء، وتحديد المواد الكيميائية المستخدمة في الأصباغ، والتعرف على البصمة الرقمية للعمل. كما ظهرت برامج ذكاء اصطناعي قادرة على مقارنة آلاف الأعمال وتحديد التشابهات الأسلوبية والمادية، وهو ما يُستخدم في المتاحف الكبرى ودور المزادات الدولية.
واختتمت تصريحاتها بأنه يُعزى التساهل في النقل إلى قصور النظام التشريعي فيما يتعلق بحماية الملكية الفكرية للفنون البصرية. وهو ما يجعل من إثبات «السرقة» أمرًا معقدًا، ويمنح المتعدّين هامشًا واسعًا للمراوغة، بالاضافة إلى أن ضعف الردع المجتمعي والمؤسسي يساهم في استمرار الظاهرة. كما أن بعض المؤسسات والمعارض تفضل تجنب الدخول في نزاعات أو إحراج علني، فتميل إلى طي الملفات أو معالجتها داخليًا دون محاسبة واضحة.