في ظهيرة يوم مشمس، وفي أرضٍ وعرة، كانت تسيرُ عربةٌ متواضعةٌ مكشوفة، غُطيتْ أرضيتها بالحصير، يجرها حمارٌ في المقدمة، وجوادان جامحان من جيادِ البريةِ في المؤخرة؛ تسيرُ متثاقلة على وقعِ ضربِ الحوذي بعنانِ الحمار، وعلى إثرهِ يمضي الجوادان؛ كان الحوذي رجلاً طويل القامة، قوي البنية، يرتدي عباءةً وقلنسوةً باليتين، مرفوع الرأس، يفتر ثغرهُ عن ابتسامةِ رضا، ثابت مع تأرجح العربة، لا يخشى على نفسه أن يُقذف من ظهرها، أو يرمي من جانب لآخر على وقعِ ما تطأه من أحجارٍ وحفر.
وفي منتصفِ المسير غفى الحوذي قليلاً، ورغم ذلك حاولَ الحمارُ جاهداً تفادي ما يعيق طريقه أو قد ينحرف به، على عكسِ الجوادين اللذين كانا يسعيان لمخالفةِ حرصه، وفجاءة، ظهرتْ أمامهم حفرةٌ مغطاةٌ بأعشابِ متشابكة تعلوها أزهارٌ حمراء، أدركَ الحمارُ خداعَها من مسافةٍ أمكنته توخيها، ونهقَ عالياً كي يحتاط الجوادان ويفيق الحوذي وهو يسلكُ مسلكاً محاذياً لها، بيد أن الجوادان كان لهما رأي آخر، فأدارا آذاناً صماء وحثا الخطى صوبها، فعلقتْ عجلةُ العربةِ فيها، هنا استفاق الحوذي من شدةِ الوقعةِ وترجلَ مستطلعاً الأمر، فوجدها عالقةً في وحلٍ لزج، فهمَّ لتحريرها، وبينما هو منشغلاً على ذلك النحو وجد قنينةً زرقاء شديدة القدم، موحلة، فتركَ ما كان فيه واستقام واقفاً وأطفقَ يقلبها بين يديه بعدما أزاحَ ما استطاعَ من وحلٍ وأوساخ، وتنحى جانباً لفتحها، وما إن فتحها حتى خرجَ منها دخانٌ كثيف يرافقه صوت مخيف، ممزوج بنشوة النصر، ليتشكل على هيئة بشرية، فسقط الحوذي من شدةِ الوجل، وهاج الحمارُ والجوادان، ثم سكنوا جميعاً، بعدما رأوا خضوعَ الشبحِ للحوذي وهو يشكره على تحريرِه.
ترك الحوذي بضعَ لحظاتٍ تمضي قبلَ أن يسألَ خائفاً: من أنت وماذا تريد؟
اسمي طوالسون، حبيسُ القنينةِ لألفِ عام، حبسني ملكُ الجان لمساعدتي إنسي بدون مقابل.
كان يتلفتُ يمنة ويسرة معطياً له ظهره، ثم دار على عقبه فجأة وقال: أثناء الخمسمائة عام الأولى توعدت من يحررني بأن انتزعَ روحَه، وبعدها قررتُ أن أعفو عنه، وأستضيفه يوماً في قصري وأدعه يرحل بسلام، ثم نظرَ إليه محدقاً وسأله:
هل تقبل ضيافتي؟
أجفلَ الرجلُ وأمطره بوابلِ من نظراتِ الاستفهام، وأخرى مريبة أرفقها بها، ثم رد عليه:
وعربتي؟
جميعكم دون استثناء.
هل لي أن أسألكَ، كيف حُبست في القنينة؟
لقد غُمستْ القنينةُ بسائلٍ مشبع بالتعويذات لمائةِ عام، لذا لا يستطيع أحد مهما بلغت قوته الشيطانية تفاديها أو الانعتاق منها، وما كان عليه حينها إلا أن دعاني لمكان مظلم ثم أمرَ أحد حراسه المقربين أن يفركَ القنينةَ ثلاثاً، ويضع الغطاءَ على فوهتِها وينزعه ثلاثاً مثلها، فتحولتُ إلى دخانٍ سرى نحوَ القنينة وأحكم إغلاقها، ورماني في البحيرة، وهذا مكانها قبل أن تجف.
في تلكِ اللحظة برك الحمارُ فجأة، بينما اشتط الجوادان طرباً، وبدا وكأن الحمارَ تناولَ شيئاً من الأرضِ وهمَّ بأكله.
لم يعر منهم الحمار أي شأن أو مزيد انتباه، بل أكمل حديثه بكثير من الاستعلاء: دعك من كل هذا الآن وأغمضْ عينيك.
أغمضَ عينيه، وبعد هنيهة وجدَ نفسَه في غرفةٍ فسيحة، جدرانها مكسوة بالستائرِ المخملية، والأرضية مغطاة بسجاد فاخر، والجو يعبق برائحة البخور، ومن الشرفة تظهر قصورٌ وقبابٌ مزينة بالفسيفساء وأسوارٌ عالية منمقة بزخارفِ الذهب، ثم التفتْ لصوتِ طوالسون وهو يدعوه للجلوس، فجلسا قبالة بعضهما على وسادتين سميكتين، وبينهما طاولة صغيرة، وضعت عليها أطايبُ الطعام، فاكتنفهما شعورٌ غامرٌ من السكينة، فطفقا يتحدثان في أمور شتى.
ثم توقفَ الحوذي عن الكلامِ فجأةً ليسأل:
كيف يمكنني أن أستلذَ بمتع الحياة مثلك، ويكون لي دنيا بلا فاقة؟
كان طوالسون يصغي باهتمام، ويتفرس فيه، وقد يبستْ على وجههِ المصفر ابتسامةٌ وكأنها قد جُمدت.
كمْ تتوقع أن تعيشَ فوقَ أعوامك الثلاثين هذه؟ قال طوالسون.
ربما ثلاثين أخرى!
سأعطيكَ ما تريدُ من المتعِ ثلاثين عاماً، شريطةَ أن أحصلَ على روحِك في اليومِ الذي تتم فيه الستين، وخلال تلك الأعوامِ لن يشيبَ رأسُكَ أو يهرمَ جسدُك!
التفت إليه مستفظعاً فبررَ قولَه مصحوباً ابتسامة هادئة:
كل ذلك كي لا أُعاقبَ بحبسٍ آخر إن أنا أعطيتك بلا مقابل. وسأُبقي لك الجوادين، أما الحمار فسوف أخذه منك.
رفع حاجبيه لوهلةٍ قبلَ أن تستفيقَ جديتُه بكلماتٍ حازمة: لا استطيعَ مفارقته.
لا يليق أن يقودَ عربتَك بعد اليومِ حمار!
سأجعله خلف الجوادين، ولن يكونَ له عليهما أي قيادة أو سلطان.
إذن ستغرق في المتع، وستكون لك الدنيا كما تريد، وسأزورك بعد نهاية كل عام بطريقتي، كي تتهيأ، فأنا استمتع بالروح الراضية.
وبعد أن هدأ وشرع يفكر ملياً، أجاب: حسناً.
لكن هناك أمرا لا بدَ أن تضعَه في الحسبان، أي سوء يطالني، يختفي معه كلُ النعيمِ الذي تتمرغ فيه، وكأنه حلمُ جميل تستيقظ منه عنوة، وتصبح على هيئة الستين، ولو كان الأذى بعد يوماً من اتفاقنا!
لذا تذكر بقاءك من بقائي، ثم نادى على الحاجب: رافقه إلى غرفةٍ لينامَ فيها إلى يومِ غد، فإنّ له موعداً مع متعٍ لا تنتهي!