

د. بلال بارودي: العمارة لا تتحقق إلا بالوصول إلى الأهداف التي من أجلها وُجد الإنسان
د. عصام البشير المراكشي: العمران في الإسلام نظرية متكاملة وليس مجرد إعمار للأرض
سالم مفتاح الجابر: الإسلام يريد منا أن نرتبط بهذه الأرض إعمارا وألا نسمح بالدمار والفساد
واصلت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية تنظيم جلسات برنامج «وآمنهم من خوف» بجامع الإمام محمد بن عبدالوهاب، فتناولت الجلسة الثالثة، التي نُظمت أول أمس بجامع الإمام، (عمارة الأرض من منظور مقاصد الشريعة).
حاضر في الجلسة كل من الدكتور بلال بارودي شيخ قراء طرابلس، ود. عصام البشير المراكشي الأكاديمي والداعية، والشيخ سالم مفتاح الجابر الداعية الإسلامي الليبي.
وقال الدكتور بلال بارودي: عندما سمى الله سبحانه آدم عليه السلام خليفة، فإن المعنى الأوضح في الاستخلاف أنه يخلف بعضهم بعضاً في خلافة واستعمار الأرض واستعمال ما فيها.
وأضاف: عندما خلف الجيل بعد الجيل بعد الجيل، ظهر الفساد، لأن الخلافة تستدعي الصراع، والخلافة إن لم تكن واضحة الأهداف متحققة المعاني مبنية على القيم فإن الصراع حتماً سيكون، لذلك قالت الملائكة: «أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك». أي إذا جعلته خليفة ولم تجعله مثلنا مسبحاً، فإن عملية استخلافه تستدعي الصراع، والصراع يستدعي الافساد، والافساد يستدعي سفك الدماء.
وأردف د. بارودي: الله جل جلاله أخبرهم أنه سبحانه يعلم ما لا يعلمون، لأن هذا الاستخلاف موجود بالتعليم، وعلم آدم الأسماء كلها، فلو كان استخلاف الانسان في الأرض خالياً عن تعليم الله له، لصحت رؤية الملائكة أن هذا العنصر الأول سيفسد فيها ويسفك الدماء، كما كان من قبله في الأرض.
وأشار إلى أن آدم الأول مُعلم من قبل الله سبحانه وتعالى، لذا فلم يتحرك في الأرض استعماراً إلا لتحقيق الأهداف السامية التي تعرف الناس بالله، وتربط الناس بالله وتعبدهم لله سبحانه وتعالى.
ونوه إلى عمارة الأرض لا تتحقق إلا بالوصول إلى الأهداف التي من أجلها وُجد الإنسان على الأرض، وهي العبودية والحفاظ على القيم والمبادئ والأخلاق، لذلك فالأنبياء كانت أعمالهم في الأرض من أسمى معاني الإعمار، موضحاً أن نوحا عليه السلام لبث في قومه ألف سنة الا خمسين عاماً وأوحى الله اليه أن يصنع الفلك، فصنع بنياناً فيه نجاة البشرية، ومن يستحق استعمار الأرض.
ولفت إلى أن إبراهيم عليه السلام أمره الله سبحانه وتعالى برفع القواعد من البيت، وأنه لم يكن أول خطاب من الله له، ولكن بعد مراحل هامة من حياته عليه السلام، منها تحدي من عبدوا غير الله، فكان إعادة بناء البشرية من وادٍ غير ذي زرع.
وأشار إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم: إنَّ مَثَلِي ومَثَلَ الأنْبِياءِ مِن قَبْلِي، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فأحْسَنَهُ وأَجْمَلَهُ، إلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِن زاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ به، ويَعْجَبُونَ له، ويقولونَ: هَلَّا وُضِعَتْ هذِه اللَّبِنَةُ؟ قالَ: فأنا اللَّبِنَةُ، وأنا خاتِمُ النَّبيِّينَ. وأن الشاهد من الحديث أن أتباع الأنبياء هم الناس، عندما يرون بناء الأنبياء بفطرهم السليمة يقولون ما أحسنه وما أجمله.
وأضاف: ما بنى الأنبياء من بناء في الأرض وإنما أرادوا أن يصححوا انحراف الناس عن البناء الذي جعل أباهم خليفة، فهم أفسدوا هذا المقصد، والأنبياء جاؤوا لتصحيح هذا المقصد، وأن الأنبياء الكرام لم يأمروا الناس بالعبادة وحدها، وأن العمران الحقيقي هو ما فعله الأنبياء.
نظرية العمران في الإسلام
قال الدكتور عصام البشير المراكشي الأكاديمي والداعية إن نظرية العمران في الإسلام هي نظرية متكاملة ليست كما قد يظن البعض مجرد إعمار للأرض بانفكاك وانقطاع عن هذا الذي يعمر الأرض وهو الإنسان، لأننا حينما نتكلم عن إعمار الأرض فنحن نتكلم عن الإنسان من جهة وعن الأرض من جهة أخرى.
وأشار د. المراكشي إلى أن أكثر الغربيين حينما يتحدثون عن المفاسد والتغيرات المناخية والاحتباس الحراري واستنزاف خيرات الأرض ونحو ذلك، لا يتفطنون إلى أن المشكلة هي في الإنسان نفسه، أو بالأحرى في بناء هذا الإنسان، فإذا ربطنا علاقة حسنة وطيدة بين الإنسان والأرض تحقق معنى العمران الذي به يتحقق التصور الإسلامي في هذا الباب، وبعبارة أخرى لا يمكن للإنسان أن يكون فاسدا في نفسه ويحقق الصلاح في الأرض، كما لا يمكن أن يكون صالحا لكنه غير قادرا على الإصلاح ويحقق الصلاح في الأرض، لا بد من تحقق الشرطين أن يكون صالحا مصلحا لتكون علاقته بالأرض علاقة إعمار لا علاقة تخريب ودمار.
ولفت د. المراكشي إلى أن شرط نظرية العمران في الإسلام تحتاج إلى مجالس طويلة، لكن على جهة الاختصار الشديد في محور الإنسان، كما يقول الطاهر بن عاشور «رحمه الله»، حينما يذكر المقصد الأعظم للشريعة: «المقصد الأعظم هو إقامة نظام الأمة بصلاح المهيمن عليه وهو نوع الإنسان»، إذن المقصد الأكبر الذي تدور جميع شرائع الإسلام حوله إصلاح الإنسان، وحينما نتحدث عن إصلاح الإنسان، كيف يمكننا أن نقارن هذا بما يحدث في الحضارة الغربية الحديثة، وحينما نقول غربية هي غربية من حيث المنشأ وإلا فهي حضارة استطاعت أن تنشر ظلالها على العالم كله، عملا بنظرية الغالب والمغلوب التي بسطها ابن خلدون وغيره.
وأوضح د. المراكشي أن الحضارة الغربية فيها ميزات يستحيل معها أن يوجد صلاح الإنسان بالمعني الإسلامي، من ذلك أولا الحرية المطلقة للإنسان، التي تؤدي إلى فساد الإنسان من حيث يريد صلاحه، لأن الحرية كالملح في الطعام إذا كان الملح بقدر معقول فهو يصلح الطعام، أما إذا كان زائدا عن حده يفسد الطعام، فالحرية بضوابطها وقيودها تصلح الإنسان، وحينما تنفلت الحرية من الضوابط ومنظومة القيم والأخلاق والدين، حينئذ تصبح الحرية وبالا على الإنسان.
استعمار الأرض واستثمارها واجب شرعي
أكد فضيلة الشيخ سالم مفتاح الجابر الداعية الاسلامي الليبي، ان استعمار الارض في الاسلام ينقلنا الى خطاب سيدنا صالح عليه السلام لقومه ثمود حين قال لهم: «يا قوم اعبدوا الله ما لكم من إله غيره هو أنشأكم من الأرض واستعمركم فيها فاستغفروه ثم توبوا إليه إن ربي قريب مجيب».
وأضاف: لم نخلق لاستعمار الارض لان الاساس في الخلق هو ما جاء في قوله تعالى: «وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56)». مستدركا ولكن على الرغم من ذلك اصبح استعمار الارض واستثمارها واجبا شرعيا، واذا وقفنا عند لفظ استعمركم وتساءلنا: هل طلب منكم عمرانها؟ فإن الاجابة ستكون «نعم» حيث يسر لنا الفعل وجعل هناك ارتباطا وثيقا بين البشرية وبين الارض التي أنشأ الله البشر منها حتى وجدنا ان العناصر التي في جسم الانسان وعددها 16 عنصرا هي نفس العناصر الموجودة في الارض.
ارتباط بالأرض
واشار الى ان الاسلام يريد منا ان نرتبط بهذه الارض اعمارا وألا نسمح بعكس الاعمار وهو الدمار والفساد، حيث نجد ان كثيرا من الناس يظن انه يصلح في الارض بينما هو يفسد، لأن بعض الصناعات التي تخرج من الارض مثل المخدرات وغيرها وبعض الصناعات العسكرية واستغلال نطاقات الارض وما فيها لا يعد اصلاحا.
واستحضر قول الله عز وجل: «وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنَّما نحن مصلحون ألا إِنَّهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون».
وحول توفية الامة ما طلب منها من ناحية استعمار الارض قال: لا والله لم توف الامة هذا الحق لان الامة اكثرها في كسل واكثرها بعيد عن استغلال واستثمار وتنمية الارض حتى اصبح قوت اكثر اهل الاسلام عند عدوهم وهذا دمار للأرض عندنا.
وقال: نرى هنا في ذلك الحديث كيف يتحول عمل اعمار الارض من عمل دنيوي الى عمل ديني كونه عبادة، بدليل ان هذا الغارس لا يستفيد مما يغرسه في الدنيا لأن القيامة تقوم وتقطع عنه الاستفادة ومن ثم فالدافع ابتغاء ثوابها في الاخرة.
واضاف: لقد عاش آباؤنا واجدادنا على الارض وهم لا يعلمون ان تحت اقدامه ثروات في الارض سيتم استخراجها ويعم الرخاء من جراء حيث كانوا يعيشون على تلك الارض وهم غير مدركين انهم يدوسون على ثروات كبيرة في باطن الارض وهذه الثروات لم يكشفها ويخرجها الى النور الا العلم.
وتابع: لذلك استعمار الارض يكون بالعلم والفهم وبالتحاليل والبحث فهذا ما نريده وهذا ما يجب ان نسخر كافة امكانياتنا وطاقتنا تجاهه محتسبين ذلك في طاعة الله بعمل مخلص تحوطه مقاصد الشريعة الاسلامية الغراء وذلك لإطعام كل جائع على الارض واطعام كل دابة على الارض ولإدخال السرور على الناس ولنشر دين الله عز وجل.