«القهوة العربية».. طقوس خاصة وأخلاقيات من زمن جميل

alarab
تحقيقات 19 يناير 2016 , 01:17ص
رانيا غانم
احتفلت قطر منذ أيام بإدراج «القهوة العربية» رسميا في القائمة التمثيلية للتراث الإنساني غير المادي لدى منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة «يونسكو»، وذلك بعد موافقة اللجنة الحكومية الدولية لصون التراث الثقافي غير المادي التابعة لاتفاقية اليونسكو في دورتها العاشرة التي عقدت في «ويندهوك» عاصمة ناميبيا مؤخرا، ضمن الملف الذي قدمته مع الإمارات والسعودية وسلطنة عمان.

وجمع ملف "القهوة" مختلف تفاصيل الكرم العربي من خلال معاني الجود وإكرام الضيف وحل المشاكل بين المتخاصمين، كما أنه من الملفات ذات الطابع العالمي لانتشار القهوة في مختلف دول العالم، ويعكس مدى التبادل الحضاري بين مختلف الثقافات بين العالم، وضم الكثير من المعاني المرتبطة بشرب القهوة لدى العربي وتفاصيل زراعتها وأماكن إنتاجها، كما تضمن معاني القهوة في الأدب العربي والقصائد التي تناولت القهوة في الإنتاج الأدبي العربي.

والقهوة حتى الآن موجودة في كل مكان تذهب إليه، وظلت هي عنوان الكرم وحسن الضيافة، كما أنها أصبحت سفيرة فوق العادة لدولة قطر تمثلها في المؤتمرات والمعارض الخارجية جنبا إلى جانب باقي الرموز التراثية، بدلاتها المميزة التي ارتبطت بها دائما، فتعلن عن هوية أي مكان توجد فيه، فعندما تزين "هارودز" المتجر الأشهر في العالم بالدلال في "ركن البادية" به، إضافة إلى وجود المقهوي يقدم القهوة بطريقتها "المثلى" لزواره، صاح رواده "هارودز صار خليجيا"، بعد أن صار ملكا لهيئة الاستثمار القطرية، فالقهوة العربية ودلالتها المميزة جزء من الهوية والتاريخ، تنثر عبق الماضي، وتتحدث عن قيمه وأخلاقياته ومآثره الجميلة.

جود وكرم
ويعود بنا الباحث في التراث الشعبي خليفة السيد المالكي إلى "زمان أول" حيث بدأت القهوة تأخذ مكانها ومكانتها لتتربع على عرش الجود والكرم والضيافة العربية، فارتبطت بشكل وثيق بالتراث العربي والخليجي على وجه الخصوص "كانت القهوة شريك كل تفاصيل حياة الخليجي والقطري قديما، بها يبدأ يومه، ويستقبل ضيوفه، ويكرم زواره، شاركته في الأفراح والأحزان، في الوحدة والسمرات والتجمعات، كانت عنوان الكرم والأصالة، وفي حضرتها تعقد الاتفاقات وتحل النزاعات وأعصى المشكلات، فكانت جزءا لا يتجزأ من حياتنا، حتى عندما بدأنا نعرف الشاي ونستخدمه أصبحنا نسميه "القهوة الحلوة"، لأنه يستخدم السكر في تحليته وليس مثل القهوة، فحتى اسم "الشاي" لم يكن موجودا. وقديما كانت الناس تفطر صباحا على القهوة ومعها التمر بأرقام فردية (وتر) على سنة النبي صلى الله عليه وسلم، ولذا فالتمر حتى الآن مرتبط بالقهوة ودائما ما يقدم معها حتى ولو توفرت أرقى وألذ الحلويات. فعندما تقدمه لا بد أن تقدم وراءه قهوة؛ لأن التمر حلو القهوة بمرارتها وخلوها من السكر تعادل حلاوته تلك. كان عشق القهوة لا يضاهى، ففي السابق كان الرجل يعمل دلة قهوة ويشربها كاملة وحده ويتكيف بها وبصنعها، حيث يجلس بجوار النار ويأتي بالحب ويحمصه ثم يدقه ثم يضعه في الدلة مع الماء على الجمر، ثم يرفعها من على النار عدة مرات ويعيدها إليها لتنضج بالشكل المطلوب، ويأخذ بعضها في فنجان ويتذوقه ليتأكد من الطعم، وهكذا حتى يتم تسويتها على الشكل الأمثل فيقوم باحتسائها".

طقوس خاصة
ويوضح المالكي أن القهوة كان لها أدوات خاصة وطرق في الصنع، وطقوس في الإعداد وتقديمها للضيف وأيضا لمن يشربها، وهي اللغة التي كان الجميع يتقنها "ارتبطت القهوة بكرم الضيافة وإكرام الزائر والاحتفاء بها، فكان صاحب البيت يصنعها بنفسه أمام ضيوفه كنوع من الاهتمام والتكريم.

وعند الصب هناك طريقة معينة للإمساك بالدلة وتكون باليد اليسرى والفناجين باليد الأخرى لأنه لا بد أن تقدم القهوة للضيف باليد اليمنى ويأخذها أيضا الضيف بيمناه.

وعند صب القهوة كان يتعين أن تكون الدلة لأعلى والفنجان بعيدا عنها وتصب القهوة فيه مثل الخيط، ويضرب الفنجان في (خشم) الدلة ليصدر صوتا خفيفا كان الهدف منه قديما تنبيه الضيف بقدوم القهوة، لكنه أصبح من طقوسها، كما تكون هناك قطعة من الليف نظيفة توضع على مكان الصب في الدلة حتى تقوم بفلترتها وتصفية أية شوائب من القهوة فينزل الماء ولا ينزل مسحوق القهوة، ومن الطقوس التي ما زلنا نحتفظ بها في طريقة شرب القهوة: هز الفنجان للمقهوي عندما تكتفي منها ولا تريد مرة أخرى، أما إذا كنت تريد المزيد فلا تهزه، وعند الانتهاء عليك الاحتفاظ بها في يدك وعدم وضعها جانبا لأن ذلك يعد عيبا في حق المقهوي، وعليك الانتظار حتى يعود إليك ثانية لأخذها إن كان مشغولا بصب القهوة لآخرين. ويكون تقديم القهوة من اليمين ثم من يليه دون تخطي أحد من الجالسين، إلا إذا رفضها، فتتوجه للتالي، حتى ولو كان من عليه الدور طفل صغير فيعامل معاملة الكبير تماما في صب القهوة والانتظار حتى يطلب المزيد أو يكتفي.

وعند الصب يملأ المقهوي ربع أو ثلث الفنجان فقط ولا يتم تعبئته كاملا، بحيث يكون رشفتين فقط، ثم تعطيه الفنجان، وإما تهزه إذا اكتفيت أو تسكت فيصب لك مرة أخرى.

أدوات خاصة
ويشرح الباحث في التراث القطري لـ "العرب" أكثر عن طرق وأدوات صنع القهوة في الماضي: "عند الشروع في إعداد القهوة يقوم صانعها بإحضار "المقلاة" التي يتم تحميص القهوة بها، وهي مصنوعة من الحديد أو الصاج المقعر، وتقلب بـ "المحماص" وهو يشبه الملعقة لكن بيد طويلة حتى لا تلسع النار يد من يقوم بالتحميص، ويكون مسطحا ومصنوعا من النحاس أو الحديد، وخلال التحميص يقوم الشخص بمفرده أو مع المتواجدين معه بغناء الأغاني البدوية، ويظل يقلبها حتى تأخذ اللون المطلوب، بنيا غامقا أو فاتحا، ثم يتركها حتى تبرد وينفخها حتى يخرج منها أي شيء غير مرغوب، ثم تطحن في الهاون، ومن ثم توضع في الدلة وتطبخ، ويضع لها صاحب البيت أو معدها الإضافات والبهارات التي يرغب فيها أو الموجودة لديه".

وتابع: "ارتبطت القهوة دائما بالدلال التي توضع فيها، وقديما كان يستخدم لصنع القهوة في قطر ثلاث دلال، إحداهما تسمى "الخمرة" وهي التي توضع على النار دائما وهي الأكبر حجما، وتوضع بها أيضا البهارات التي تضاف إلى القهوة خلال الطبخ كالمسمار أو القرنفل، وأحيانا يضاف الزعفران أو ماء الورد، وكل هذا على حسب الذوق والمقدرة أيضا، فلم يكن لدى الجميع الإمكانيات نفسها، ولم تكن الأشياء متوفرة كما هو الحال الآن، والدلة الأخرى هي "المزل" ويسكب فيها القهوة المطبوخة ويتم تحويجها بالهيل، والثالثة هي المصب التي يوضع فيها القهوة بعد طبخها وتبهيرها وتقدم فيها للضيف، وتكون من النحاس اللامع ومغسولة وجاهزة للتقديم، وكانت تستخدم في الماضي الدلة "الرسلان" أو الدلة العراقية، لكن استخدامها الآن أصبح نادرا ويستخدم بدلا منها الترمس أو إناء حفظ الحرارة".

تغييرات
ويوضح المالكي أنه برغم أن القهوة ما زالت تحتفظ بمكانتها حتى الآن إلا أن الكثير من التغيرات طرأت عليها سواء في الإعداد أو التقديم: "لم تتغير القهوة لدينا وارتباطنا بها، لكن تغيرت طريقة إعدادها، ففي السابق كانت تطحن في الهاون المخصص لها، ثم أصبحت هناك ماكينات لطحنها عند الباعة وفي المحامص، ثم أصبح لدينا ماكينات لطحنها في البيوت، كما يمكن الآن شراؤها من المتاجر جاهزة، محمصة، ومطحونة، وأيضا مضاف إليها البهارات المفضلة، وما علينا سوى وضعها في الماء بالمقدار المطلوب. كما قد يضاف لها مبيض القهوة، فيضعون في الترمس ملعقة من هذا المسحوق فيعطيها لونا أشهب. التقديم أيضا قد يختلف، حيث يقدم حاليا في المكاتب وكثير من الأماكن في أكواب كأكواب الشاي، وأنا ممن يرفضون تناولها إلا في الفنجان، فهو أصل شرب القهوة وبدونه تكون غير مستساغة بالنسبة لي. لكن برغم ذلك لا تزال القهوة جزءا من التراث ولا بد أن تكون موجودة في كل مكان، في البيوت وللضيافة وفي الأفراح والمجالس والتجمعات، وعندما يزور أحدهم بيتك لا بد أن تقدم له قهوة مهما قدمت له من مشروبات أو حلوى، فالقهوة هي الأصل في الضيافة وحسن الاستقبال".

سوق واقف
يمتلئ سوق واقف الآن بالمقاهي وأشهر محلات القهوة العالمية، لكنها لا تمت بصلة لما كانت عليه السوق فيما مضى وبقهواها العربية الأصيلة حسبما يوضح لنا خليفة السيد: "في خمسينيات القرن الماضي كان في السوق شخص يطلق عليه "مقهوي السوق"، رجل ثيابه نظيفة وشكله مرتب وهندامه جيد، وفي يده دله نحاسية لامعة ومعه الفناجين، فيمشي في السوق ويعطي القهوة للموجودين حتى يكتفوا ثم يمشي و "الحساب يجمع"، كما كان هناك بعض الدكاكين التي يجتمع فيها تجار اللؤلؤ والعقارات والشيوخ، فيدخل عليهم المقهوي ويسلم عليهم ويصب القهوة لهم ويمشي "والحساب يجمع"، ثم كل فترة يعطيه الشخص الذي شرب منه القهوة مبلغا من المال فيضعه المقهوي في جيبه دون أن ينظر إليه مهما كان روبية، خمسة روبيات، عشرة روبيات، كل شخص وقيمته، حيث كان كل من يمشي في سوق واقف فيه أهل قطر والعائلات الكبيرة، وكان يوجد الوجهاء والكبار بحرسهم وضيوفهم، كما يتواجد التجار دائما في السوق في فترة الصباح للبيع والشراء وعقد الصفقات وإنهاء الأعمال والاتفاقات، وفي فترة المساء في المجالس والسمرات كان هذا الموجود في السوق، لكن الآن السوق أصبح كله أجانب وهذه المظاهر اختفت منه، حتى زيارة القطريين والوجهاء والكبار له لم تعد كما كانت في السابق".

دلال وتذكارات
اختفى "المقهوي" لكن ظلت علاقة سوق واقف بالقهوة قائمة، ففي متاجر البهارات بها كل أنواع القهوة، والهيل والزعفران والمسمار وكل البهارات التي توضع عليها، كما تباع فيه الدلال قديمها وحديثها، للاستخدام أو الديكور، وحتى الدلال العصرية أو الترامس تجدها في متاجر الأدوات المنزلية بالسوق التي تكون الوجهة الأولى للراغبين في شراء أفضل أنواعها.

في متجره "الفنون القطرية بسوق الحرف الشعبية" بـ "واقف" يعرض رامي الشيخ مجموعة من الدلال النحاسية والصواني التي تتألق لتضاهي الذهب في لمعانه وجماله، صنعتها أنأمل والده الحاج يوسف مع مجموعة من الفنانين والحرفيين المهرة وتتوسط "الدلة الأشهر الرسلان" المتجر معلنة لرواده من القطريين والخليجين والسياح الأجانب عن رمز لا تخطئه العين من رموز الخليج العربي، ويوضح الشيخ لـ العرب أن الدلال الموجودة لديهم تكون مصنوعة من النحاس بنسبة %100، لكن ما يتم استخدامها في طبخ أو ضع القهوة بداخلها فيتم تبيضها حتى تكون صالحة للاستخدام فلا تسبب تسمم أو أية أخطار محتملة، في حين تبقى الدلة التي تستخدم كديكور على نحاسها بشكله الأصلي دون أي معالجة، موضحا أنه لا بد أن يخبر زبائنه على الفرق بينهما، رغم أن من يستخدمونها لأغراض الطبخ ووضع القهوة غالبا ما يعرفون هذه المعلومة، لكن يصر على توضيحها للجميع.

ويوضح البائع أن أكثر حجم استخداما هو مقاس 30 سنتيمتر وهو المتداول أكثر في الطلب والاستخدام، أما الأكبر من هذا بأحجام تصل قد تزيد عن المتر أو الأقل -والتي تبلغ عدة سنتيمترات قليلة- فتكون للديكور.

وقال إنه توجد أشكال عديدة من الدلال حيث إن لكل بلد أو منطقة الدلة الخاصة بها، وإنهم يقومون بتنفيذ أي دلة حسب طلب الزبون لو قدم نموذج أو صورة لها "برغم وجود أنواع عديدة من الدلال إلا أن الغالبية تسأل عن الدلة العراقية أو الرسلان، ويسمونها الدلة الأصلية، وسعر الدلة الحجم المتوسط 300 ريال، ويزيد أو يقل السعر حسب المقاس".

وأوضح أن القطريين والخليجين ليسوا فقط من يقبل على شراء الدلال، لكن أيضا يفضلها السياح الأجانب الذين يأخذونها كديكور وتذكار من قطر سواء ممن يعملون فيها أو السياح القادمون إليها "كما نقوم بكتابة العبارات والأسماء بالخط العربي على الدلال، فيمكن أن نكتب اسم الفندق مثلا أو المقهى، أو يطلب أحدهم كتابة اسم العائلة أو اسمه، كما يقبل الأجانب على كتابة أسمائهم بالخط العربي على الدلال التي يشترونها كتذكارات".

ولا يكتمل تقديم القهوة بدون الصينية المميزة، وهو ما استعرضه لنا البائع من خلال مجموعة كبيرة من الصواني بأحجام مختلفة، وعن أسعار الصواني النحاسية المشغولة يدويا بالنقوش العربية يوضح البائع أن تتفاوت حسب المقاس "فالصغيرة التي يمكن وضع الدلة عليها ومجموعة من الأكواب وقطرها 40سم تباع بـ300 ريال، والأكبر قطر 60سم سعرها 700 ريال لتصل إلى 1700 ريال للصينية الأكبر حجما والتي تستخدم كطاولة عربية في المجالس أو أحد أركان المنزل".

أطقم أخرى كاملة للقهوة تنتشر في محلات سوق واقف، بعضها يستخدم في تقديم القهوة وبعضها يوضع كديكورات مميزة تزين المكان بقطعة رمزية من الشراب الأثير "القهوة"، ويستعرض لنا محمد أبرار من متجر "الشقب" مجموعة من الأطقم أولها مصنوع من معدن أبيض ومشغول بالماكينات لكن برسوم يدوية، والطاقم مكون من دلة و6 كؤوس صغيرة وصينية ويبلغ سعره 350 ريالا ومصنوع في الإمارات، وطاقمين آخرين مصنوعين من النحاس، يباع الطاقم بـ350 ريالا والآخر 250 ريالا، وهما صناعة باكستانية، كما توجد الدلال التي تباع منفصلة ويبلغ سعر الواحدة منها 200 ريال. واستعرض أيضا مجموعة من الأطقم صغيرة الأحجام بألوان مخلفة لكنها تستخدم كديكورات، وأوضح أن السياح يقبلون على شراء الأطقم الكاملة سواء الكبيرة التي يمكن استخدامها في تقديم القهوة أو الأحجام الصغيرة كهدايا وتذكارات، مشيرا إلى سفير إحدى الدول الأوروبية الذي اشترى مؤخرا خمس أطقم دلات دفعة واحدة كتذكار وهدايا لأصدقائه في بلده من الدولة التي يعمل بها.

حتى التذكارات الصغيرة والمتوسطة التي تباع في البازارات واقف لا تخلو مما يشير إلى القهوة العربية، وتعد الدلة والفناجين أبرزها فتباع وحدها أو ضمن صور ونماذج محفورة لمعالم الدوحة الحديثة والقديمة فتحتضنها الدلة، وتنشر "بسوق واقف" أيضا مجموعة من الدلال الكبيرة القديمة التي وضعت في مداخل بعض المتاجر أو أمامها، كما تباع كميات كبيرة من الدلال القديمة المستعملة، ولها زبائنها الذين يقبلون عليها من هواة اقتناء التحف القديمة أو محبي التراث، وأكد باعتها أن لها زبائنها الذين يقدرون حالتها ووقتها ونوعها، كما يعرفون قيمة أثمانها الغالية فهي تحف من زمن جميل.