هل أُعجب الدكتور عبدالعزيز عبدالغني إبراهيم (1939-2022) بشخصية المؤسس الشيخ جاسم بن محمد بن ثاني (1826-1913)، واعتبره بطلا وفق نظرية البطولة في تفسير التاريخ؟، يرى المؤرخ السوداني أن الشيخ جاسم آل ثاني قد أصغى مليًا لنداء الروح، واستفاد من الظروف الدولية لتحقيق طموحه، فتوج مع أبناء شعبه تاريخ قطر بميلاد دولة قطر الحديثة، فقد عمل كما يذكر على تنشئة أولاده على أسس من التقوى والورع، ومخافة الله دون غيره من سائر مخلوقاته، كما دفع بهم إلى ميادين المعارك حتى يعتادوا قيادة الرجال، وتدرب العديد من أبنائه على الإدارة المدنية وإدارة الأموال، وتشربوا الكثير من سلوكياته والدهم في السلم والحرب، وتطبعوا بطبعه، وساروا على نهجه.
يُشير إلى أن نجم الشيخ جاسم بدأ يسطع في سماء قطر في سنة 1267هـ/ 1851م، حين نازل أحد فرسان جيش الإمام فيصل بن تركي في معركة مسيمير، بعدما جمع القبائل القطرية تحت راية واحدة، دفاعًا عن أرض قطر، وهنا وجد الإمام فيصل نفسه مضطرًا لإبرام صلح، ويوضح أن الشيخ جاسم قد تمتع بعدد من المزايا أهلته لأن يقود سفينة قطر في بحر متلاطم الأمواج، فقد كان نصيرًا للاجئ إليه؛ قائمًا على نفي الظلم عن المظلوم، عاملا على الانتصار له من دون النظر لانتمائه القبلي، وكان شجاعًا يُفاخر بشجاعته، وهي ميزة كانت ضرورية تتطلبها فترة تأسيس الدولة، فقد كان صعب المراس، عصي القيادة، يؤمن يقينًا بالقدر خيره وشره، ويكشف شعره عن بره بالأرحام، ومن ثم حين سار ذكره بين القبائل بالشجاعة والصلاح والفلاح والتقوى ومخافة الله ارتضته مجتمعاتها حكمًا لخلافها، وقبل شيوخها الانصياع له طوعًا وكرهًا، كما يُشير إلى أن شعر الشيخ جاسم يكشف عن أنه كان متسامحًا مع كافة المتعاملين معه، سليم الصدر لا يُضمر حقدًا لأحد مهما لحقه منه من أذى، وكثيرًا ما حث في شعره على العفو والإحسان والتسامح، وغير ذلك من الفضائل، التي تُزين الحاكم وتُكسبه زيادة في محبة شعبه.
يُبين الدكتور عبد العزيز أن الشيخ جاسم قد أحدث في سياسته الداخلية تطورًا تجاوز الشكل التقليدي للمجتمع، ووصل به إلى صياغة مجتمع مدني قاد إلى تحقيق الوطن الجامع، وتشكيل دولة قطر، وعمل على تحقيق هذه الغاية بحكمته وحنكته وشجاعته، وبذله للأموال، والانتصار للحق، ولهذا جمع شمل قبائل قطر وقراها على قلب رجل واحد، وتجاوز البنية التقليدية للقبيلة؛ وصولا إلى مستوى صناعة الوطن، ثم تجاوز ذلك إلى المستوى القومي، وتعداه إلى فكرة الرابطة الإسلامية، وهكذا جمع المجتمعات القبلية، وعمد إلى إعادة هيكلية البنيات المتشرذمة في رابطة مدنية من دون أن يتصادم صراحة مع البُنى الثقافية لتلك المجتمعات، فلم يكن ضد ثقافة القبيلة؛ بل كان حريصًا عليها ليشد المجتمع القبلي إلى جذوره الأصيلة، ولكنه عمل على تحوير هذه الثقافة وقولبتها؛ لتوسيع دائرة الانتماء القبلي، والدفع به إلى مرتبة التحضر، ليصوغ ما أطلق عليه الدكتور عبد العزيز «قطر القبيلة الواحدة الجامعة، التي تضم داخلها القبائل الأخرى بمسمياتها وأعرافها»، فتفاعلت القبائل المختلفة مع أفكار التحديث والتحضر، وإقرار القانون والنظام.
يستدعي الدكتور عبدالعزيز دروس التاريخ فيُقارن بين حلف الفضول، الذي وقع في مكة المكرمة قبل الإسلام، والحلف الذي عقده الشيخ جاسم مع قبائل قطر في عام 1867، وتولى الشيخ جاسم قيادة هذا التحالف، الذي تشكّل لنصرة المظلوم دون اعتبار لنظام الإرث القرابي، الذي أدرك الشيخ جاسم أنه بات غير ملائم لنظام التحضر، الذي عمل على غرسه في قطر.
وبينما كان الشيخ جاسم يجمع شمل القبائل القطرية داخليًا، كانت له سياسته الخاصة تجاه الكيانات الإقليمية والشيوخ العرب، والتزم فيها ما تُمليه عليه الأعراف القبلية، فظلت حواضر قطر طيلة عهده كعبة تحج إليها كل قبيلة أو مجموعة أو عشيرة، أو أي فرد لحق به ضيم من سلطة أو سلطان في المنطقة، يستجير بالشيخ، فلا يُسأل عن الجريرة، ولا يطلب ممن استجار به، بعد ذلك، رد الجزاء، فقد كانت قطر في عصره تتسع لجميع من يأتي إليها من العرب، وكان يتدخل لإحداث الوفاق بين الفرقاء.
كذلك خاض الشيخ جاسم في سبيل تأسيس قطر الحديثة المصاعب الإقليمية والدولية، والتي واجهها بفكره القائم على ركيزتين أساسيتين: الرابطة الإسلامية، وفكرها القائم على الولاء والبراء، ثم بالعرق القبلي القائم على فكرة انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا، فقد كان يؤمن بضرورة قيام رابطة إسلامية تجمع بين أقطار المسلمين ترابطًا وتعاضدًا وتكاملا على أن تُراعي الخصوصية المميزة لكل بلد، وتأخذ في حسبانها اختلاف الأعراق، وتباين الثقافات والعادات والتقاليد في أقاليم الدول المختلفة، أي أن تكون وحدة إسلامية كونفدرالية جامعة. ويُشير إلى أن الشيخ جاسم قد تمتع بعدد من المآثر والمناقب، كالكرم، الذي تجاوز حدود قطر من خلال الأوقاف وطباعة الكتب وتوقيفها على طلبة العلم.
يُرجح الدكتور عبدالعزيز عبدالغني أن الشيخ جاسم قد ولد في سنة 1826، وتوفي في 17 يوليو 1913، ودفن في لوسيل، بعد أن ثبت أركان دولة مستقلة، برغم كل الأحداث التي كانت تعصف بمنطقة الخليج في أيامه. وهكذا يُطبق الدكتور عبدالعزيز نظرية البطولة في التاريخ، ويرى أن الشيخ جاسم قام بدور كبير؛ ليخرج بدولة مستقلة في ظل ظروف محلية وإقليمية ودولية صعبة.