«أم أيوب» الصحابية التي شُرفت باستضافة النبي بالمدينة

alarab
باب الريان 15 أغسطس 2012 , 12:00ص
رقية الشرباصي
في اليوم التاريخي الذي قدم فيه النبي إلى المدينة، كانت أصوات التهليل والتحميد ترتفع إلى السماء، والتف الأنصار حول النبي -صلى الله عليه وسلم- كل يمسك بزمام ناقته يرجو نزول النبي عنده، فكان -صلى الله عليه وسلم- يقول لهم: «خلوا سبيلها فإنها مأمورة». فتُرى من الذي حظي بهذا الشرف العظيم الذي تسابق الأنصار إليه وابتهل كل منهم إلى الله بأن يناله. نعود إلى الناقة ونسترجع المشهد جيدا لنعرف، فلم تزل الناقة سائرة، تتبعها العيون والأفئدة، يحدوها الأمل بنيل هذا الشرف العظيم، حتى وصلت إلى موضع المسجد النبوي اليوم، فبركت، لتعقبها شهقات الحسرة، ثم تنهض الناقة وتسير قليلا فتعلو أصوات الفرحة، حيث يتجدد الأمل في نفس كل منهم من جديد، ويدعو أن تسير الناقة إلى بيته، بيد أن الناقة تلتفت وترجع لتبرك في موضعها الأول، فيتيقن الأنصار أن الله رب العالمين قد شاء ولا رادّ لمشيئته، وكان الموضع الذي بركت فيه هو موضع بني النجار أخوال النبي -صلى الله عليه وسلم- وبالتحديد أمام دار أبي أيوب الأنصاري، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ها هنا المنزل إن شاء الله» فملأت الفرحة قلب أبي أيوب وزوجته، فقد فازا بالشرف العظيم الذي تمنى الجميع الفوز به. وخرجت نساء بني النجار ينشدن: نحن جوار من بني النجار يا حبذا محمد من جار فقال عليه الصلاة والسلام لهن: «أتحببني؟» فقلن: نعم. فقال: «الله يعلم أن قلبي يحبكن». لم تحفظ ذاكرة التاريخ اسم أم أيوب بنت قيس بن سعد الخزرجية الأنصارية، وإنما غلبت عليها كنيتها. وقد أدركت أنها فازت بشرف تمنت أي امرأة من الأنصار أن تحظى به، فحرصت أن تكون أهلا لهذه المكرمة العظيمة، فقد أصبحت أم أيوب من الخالدات باستضافتها للنبي 7 أشهر كاملة للمدينة. ضيافة النبي كان بيت أبي أيوب مؤلفا من غرفتين واحدة فوق الأخرى، ولما قدم النبي -صلى الله عليه وسلم- نزل في الدور الأسفل، وطلب أبوأيوب من الرسول أن يصعد للأعلى، فقال النبي: «أرفق بنا وبمن يغشانا أن نكون في سفل البيت». وصعد أبوأيوب وأم أيوب الغرفة العليا، ولكن لم تكتحل عيناهما بنوم، وجعلا لا يتحركان خيفة أن يتناثر الغبار ويؤذي النبي، وحدث أن انكسرت جرة كبيرة مملوءة بالماء، فقاما ينشفان الماء بكساء يلتحفانه، خوفا من أن يصل شيء منه يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفي الصباح نزل أبوأيوب وقال للنبي: لا ينبغي أن أكون فوقك، فاصعد للعلو. وأخذ يستعطفه ويتضرع إليه حتى قبل وانتقل، فقرت عينا الزوجين بذلك وحظيا بمرضاة رسول الله صلى الله عليه وسلم. غمرت السعادة نفس أم أيوب، فكانت تسارع لإعداد الطعام الذي يحبه النبي، وتتحرى ما يشتهي وما لا يشتهي حتى تمتنع عن إعداده له مرة، وكانت أيضا تسابق زوجها إلى التماس الخير بالتبرك بآثار أصابع النبي -صلى الله عليه وسلم- ويروي أبوأيوب -رضي الله عنه- قائلا: كنا نصنع العشاء للنبي –صلى الله عليه وسلم– ثم نبعث به إليه، فإذا رد علينا فضله تيممت أنا وأم أيوب موضع يده، فأكلنا منه نبتغي البركة، حتى بعثنا إليه ليلة بعشائه، وقد جعلنا له بصلا أو ثوما، فرده رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم أر ليده فيه أثرا، فجئته فزعا فقلت: يا رسول الله، بأبي أنت وأمي، رددت عشاءك ولم أر فيه موضع يدك. فقال: «إني وجدت فيه ريح هذه الشجرة، وأنا رجل أناجي، فأما أنتم فكلوه». قال: فأكلناه ولم نصنع له تلك الشجرة بعد. أما أم أيوب فقد قالت عن النبي: ما رأيته أمر بطعام يصنع له بعينه، ولا رأيته ذم طعاما قط، ولكن أبا أيوب أخبرني أنه تعشى معه ليلة من قصعة أرسل بها سعد بن عبادة -رضي الله عنه- فيها طفيشل وهو نوع من المرق، فرآه ينهكها نهكا لم يره ينهك غيرها، فكنا نعملها له، وكنا نعمل له الهريس فنراه يعجبه، وكان يحضر عشاءه الخمسة إلى الستة إلى العشرة. وقالت أم أيوب أيضا: صنعت للنبي -صلى الله عليه وسلم- طعاما فيه من بعض البقول، فلم يأكل وقال: «إني أكره أن أوذي صاحبي» يعني جبريل عليه السلام. كلمات أم أيوب تدل على مدى حرصها على رضا النبي ومتابعته بدقة لتعلم ما يحب ويكره، حتى تستطيع أن تهيئ الراحة له في ضيافته لديها، ولتكن جديرة بما أكرمها الله به من شرف عظيم سيظل مقترنا باسمها إلى يوم الساعة. وقد خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم في الظهيرة إلى المسجد فوجد أبي بكر وعمر فقال: «ما أخرجكما من بيوتكما هذه الساعة» قالا: الجوع يا رسول الله، قال: «وأنا والذي نفسي بيده لأخرجني الذي أخرجكما، قوموا». فقاموا معه وانطلقوا إلى باب أبي أيوب، فخرجت إليهم أم أيوب قائلة: مرحبا بنبي الله وبمن معه، فقال صلى الله عليه وسلم: «أين أبو أيوب؟». فسمعه أبوأيوب -وكان يعمل في نخل له- فجاء مسرعا فقال: مرحبا بنبي الله وبمن معه، ثم انطلق فقطع عذقا من النخل، فيه كل من التمر والرطب والبسر فقال صلى الله عليه وسلم: «ما أردت إلا هذه، ألا جنيت لنا من تمره؟». قال: يا رسول الله أحببت أن تأكل من تمره ورطبه وبسره، ولأذبحن لك مع هذا. فقال صلى الله عليه وسلم: «إن ذبحت فلا تذبحن ذات در» (أي لبن)، فأخذ جديا فذبحه وقال لأم أيوب: اخبزي واعجني لنا وأنت أعلم بالخبز. فأخذ نصف الجدي فطبخه وشوى نصفه. فلما نضج الطعام، ووضع بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه أخذ من الجدي فجعله في رغيف وقال: «يا أبا أيوب أبلغ بهذا فاطمة فإنها لم تصب مثل هذا منذ أيام» فذهب أبوأيوب إلى فاطمة. فلما أكلوا وشبعوا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «خبز ولحم وتمر وبسر ورطب -ودمعت عيناه الشريفتان- والذي نفسي بيده إن هذا هو النعيم الذي تسألون عنه يوم القيامة». شهادة حق أم أيوب لها موقف لا ينسى في حديث الإفك الذي انطلق من فم المنافقين والمرجفين في حق عائشة رضوان الله عليها، فقد روي عن أبي أيوب أنه قال لأم أيوب رضي الهب عنهما: ألا ترين ما يقال؟ -أي من الإفك- فقالت له: لو كنت بدل صفوان أكنت تهم بسوء لمحرم رسول الله –صلى الله عليه وسلم-؟ قال: لا! فقالت له: ولو كنت أنا بدل عائشة ما خنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعائشة خير مني وصفوان خير منك. هذه أم أيوب صاحبة القلب السليم والعقل الراجح التي جزمت بقلبها وعقلها بقول فصل فيما يخوض فيه الخائضون، فقد رفض قلبها المؤمن أن تتهم أم المؤمنين، وصدق عقلها الواعي ومنطقها السليم، فانطلق فمها بكلمات حق لتمتدح عائشة رضي الله عنها وتبرئها مما لا يمكن أن يقبله منطق أو عقل.