

لم يعرف المسلمون الأوائل التفريق بين السياسة والدين، بل جعلوا السياسة منخرطة ضمن تعاليم الدين، فلو قرأنا كتب الفقه لرأيناها تتكلم عن الأمور السياسية - حسب لغة تلك الفترة - كما تتكلم عن الوضوء والصلاة والقيام، وهذا ما أكده ابن تيمية عندما قال: فالواجب اتخاذ الإمارة ديناً وقربة يتقرب بها إلى الله، فجعل اتخاذ الحكم والسياسة من الدين وسيلة من وسائل التقرب إلى الله سبحانه وتعالى، فالدولة في الإسلام من الدين، وأن الدين في الإسلام محيط بالسياسة وغيرها من النشاطات البشرية ومنظم لها جميعاً، لأن هذه العبارة منطلقة من ثقافتنا وحضارتنا.
ولقد بيّن القرآن الكريم وجوب وجود القوة في أيدٍ حكيمة لإقامة العدل ولمنع الفساد والظلم، قال تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾ [الحديد: 25].
تشريع وتوجيه
وإن دين الإسلام الذي شرَّعه الله تعالى لم يدع جانباً من جوانب الحياة إلا وتعهده بالتشريع والتوجيه فهو ـ بطبيعته ـ شامل لكل نواحي الحياة، مادية وروحية فردية واجتماعية، وقد خاطب الله تعالى رسوله: بقوله: ﴿ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ [النحل: 89].
إن تعاليم الإسلام وأحكامه في العقيدة والشريعة والأخلاق والعبادات والمعاملات، لا تؤتي أُكلها إلا إذا أُخذت متكاملة، فإن بعضها لازم لبعض، وهي أشبه «بوصفة طبية» كاملة مكونة من غذاء متكامل، ودواء متنوع وحمية وامتناع من بعض الأشياء، وممارسة لبعض التمرينات، وحتى تحقق هذه الوصفة هدفها، لابد من تنفيذها جميعاً، فإن ترك جزء منها قد يؤثر في النتيجة كلها، فالإسلام يرفض تجزئة أحكامه وتعاليمه وأخذ بعضها دون بعض وقد اشتد القرآن الكريم في إنكار هذا المسلك على بني إسرائيل. قال تعالى: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ [البقرة: 85]
الاستجابة للتغييرات الكبرى
وفي القرآن الكريم أحكام كثيرة ليست من التوحيد ولا من العبادات، كأحكام البيع والربا والرهن والإشهاد وأحكام للنكاح والطلاق واللعان، والولاء والظهار والحجر على الأيتام والوصايا والمواريث، وأحكام القصاص والدية وقطع يد السارق وجلد الزاني وقاذف المحصنات، وجزاء الساعي في الأرض فساداً، وذكر الشيخ آيات تتعلق بالسلم والحرب والمعاهدات والعلاقات الدولية، ثم قال: وفي السنة الصحيحة أحكام مفصلة في أبواب من المعاملات والجنايات إلى نحو هذا، ممّا يدل على أن مَن يدعو إلى فصل الدين عن السياسة إنما تصور ديناً آخر غير الإسلام.
وبالجملة فإن السلطات السياسية الشرعية العادلة، والوظائف الحكومية الراشدة، والولايات العامة الصالحة، من أهم المقاصد الكفائية التي تتحقق بها مقاصد الشارع، وتحفظ بها مصالح الخلق على الوجه الأكمل.
من أين جاءت فكرة الكتاب؟
هذا الكتاب هو محاولة جادة للاستجابة للتغييرات الكبرى التي تمر بها شعوبنا مع التغيرات السياسية والفكرية والحضارية التي تمر بها، فالشعوب لديها مطالب وتسعى لتحقق أهدافاً ومبادئ أعلنتها، كالحرية والعدالة والمساواة والشورى، ومحاربة الفساد، والتعددية والتداول السلمي، فعكفت رغم الانشغال عن البحث والتنقيب وسبر التجارب الإنسانية، والغوص في أعماق التاريخ القديم، والحديث لاستخراج النافع والمفيد من التراث الإنساني والإسلامي، مسترشداً بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه، ولا من خلفه، ومتعلماً من سيد البرية من سيرته الشاملة والتي لا يستغني عنها طالب علم، ولا باحث عن الحقيقة، ولا مصلح اجتماعي، ولا مفكر إستراتيجي، ولا قائد سياسي، ولا زعيم نهوض حضاري يؤمن بالقيم والمبادئ الإنسانية الرفيعة.
نشأة الدولة الإسلامية
وهذا الكتاب الذي يتحدث عن الدولة الحديثة دعائمها ووظائفها برؤية إسلامية، مستحضراً فكر الدولة عن النبي (ﷺ) والتوجيهات القرآنية في هذا المجال.
ويجد القارئ في هذا الكتاب دراسة عن مفهوم الدولة ونشأة الدولة الإسلامية، وعن المراحل التي مر بها الرسول (ﷺ) للوصول للدولة منذ المرحلة السرية، ودار الأرقم ابن أبي الأرقم، وأثر شخصيته صلى الله عليه وسلم في صناعة القادة والمادة الدراسية التي اعتمدها في تربية الأفراد، ومرحلة الإعداد والبناء، وانتشار الدعوة في بطون قريش، وعن فقه النبي (ﷺ) في التعاون مع السنن، كسنة التدرج، وتغيير النفوس والابتلاء والتمكين، والأخذ بالأسباب، وعن حركة الطواف على القبائل طلباً للنصرة، وبيعة العقبة الأولى والثانية والهجرة إلى المدينة.
وعن دعائم الدولة في المدينة، كبناء المسجد، والدستور وحركة السرايا وسنة التدافع، والاهتمام بالأمن والتخطيط والإدارة والاقتصاد والإعلام، والبناء التربوي والعلمي، والقانون والسلطة القضائية، والسلطة التشريعية والتنفيذية والمفاوضات السياسية والعلاقات الخارجية، وسياسة كسب الأعداء، وحاولت في الحديث عن الدعائم الجمع بين الأصالة والمعاصرة وبين الماضي والحاضر.
وشرحت وظائف الدولة والاهتمام بالمواطن وتقديم الخدمات له والتي من أهمها السكن والعمل والرياضة والاهتمام بالمرأة والأسرة والطفولة والشباب، ورعاية الفئات الخاصة، كالأرامل وذوي العاهات والأمراض المزمنة والاهتمام بالبيئة والصحة والسياحة، وموارد الدولة ومحاسبة الموظفين والوزراء وغير ذلك من الأمور.
فهذا الكتاب ضمن مجموعة من الدراسات الفكرية والثقافية التي تحاول أن تساهم وتترك بصمة نافعة للمشروع النهضوي الحضاري للأمة الإسلامية، يقول الثعالبي: لا يكتب أحد كتاباً فيبيت عنده ليلة إلا أحب في غيرها أن يزيد فيه أو ينقص منه، هذا في ليلة، فكيف في سنين معدودة؟
وقال العماد الأصبهاني: إني رأيت أنه لا يكتب إنسان كتاباً في يومه إلا قال في غده: لو غير هذا لكان أحسن، ولو زيد كذا، لكان يستحسن، ولو قدم هذا لكان أفضل، ولو ترك هذا لكان أجمل، وهذا من أعظم العبر وهو دليل على استيلاء النقص على جملة البشر.