إضاءة في كتاب.. الحريات من القرآن الكريم

alarab
الملاحق 09 أغسطس 2024 , 01:10ص
د. علي محمد الصَّلابي

هذا الكتاب يتحدث عن الحريات، وقد تم تقسيمه إلى مباحث: • المبحث الأول يتحدث عن معنى الحرية ومفهومها وأهميتها وأسسها ومرجعيتها، وعن الحرية في القرآن الكريم. إن الحرية شعار ضحَّتْ من أجله وثارت في سبيله الشعوب، وأُريقت من أجله الدماء الزكية، فمنذ العصور الحديثة أصبحت الحرية شعاراً للشعوب والطبقات المضطهدة ضد مغتصبي الثروة والسلطة والمسيطرين على رقاب الناس في المجتمعات البشرية.

ولمفهوم الحرية علاقة مباشرة مع جوهر وجود الإنسان، ومن أجل ذلك المفهوم اعتبر الإنسان نفسه مخلوقاً مميزاً عن بقية مخلوقات الأرض.
إن أعلى مفاهيم الحرية في توحيد الله عز وجل، حيث تتحرر النفس البشرية والعقل الإنساني من القيود الوثنية وعبادة الفرد لغير الله، والحرية في الإسلام هي ضد العبودية، وضد الرق والوثنية والظلم، وهي حرية الفرد والمجتمع على حدٍّ سواء، فلا حرية للفرد على حساب المجتمع، ولا حرية للمجتمع على حساب الفرد، فهي حرية الفكر المنطلِق إلى طريق الحق وإلى الإبداع والتجدد والاجتهاد، ويأتي مفهوم الحرية في الفكر الإسلامي منطلقاً من أن الإسلام أشار لتحرر الفرد من كل خوف وإعلاء له عن كل شرك.
ولذا أمر النبي (ﷺ) ابن عباس رضي الله عنهما والأمة من خلفه أن يرفعوا الأغلال عن عقولهم، لأن الآجال والأرزاق والنفع والضر بيد الخالق، فقال النبي (ﷺ): «يا غلام، إني أعلمك كلمات: احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفعت الأقلام وجفَّت الصحف».
كما نهى عن التبعية المقيتة والسلبية القاتلة، فقال (ﷺ) فيما رواه حذيفة
رضي الله عنه: «لا تكونوا إمَّعة تقولون: إن أحسن الناس أحسنَّا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطِّنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا، وإن أساؤوا فلا تظلموا».
ولذا قال عمر بن الخطاب لعمرو بن العاص رضي الله عنهما: متى استعبدْتُمُ الناس وقد ولدتْهم أمهاتُهم أحراراً؟!.
وجعل ربعي بن عامر رضي الله عنه تحرير الناس هو جوهر الإسلام لمَّا سأله رستم عن سبب مجيء المسلمين إلى الفرس، فقال: الله ابتعثنا لنُخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، وأرسلنا بدينه إلى خلقه لندعوهم إليه، فمن قبل ذلك قبلنا منه ورجعنا عنه، ومن أبى قاتلناه أبداً حتى نفضي إلى موعود الله.
إن الحرية في المفهوم الإسلامي قيمة كبرى تحتل من سلَّم المقاصد الدينية الدرجات العليا، وهي قيمة ثابتة تتصف بالديمومة في الزمان والمكان.
والحرية من صميم أصول الدين وليست من فروعه، ولعل أول ما يبدو ذلك في عقيدة التوحيد، فجوهر هذه العقيدة هو أن يكون الإنسان مسلماً نفسه فيما يأتي وما يذر لله تعالى وحده، وهو ما يقتضي أن يكون متحرراً من كل ما سواه، فعقيدة الوحدانية تنفي أن يكون المؤمن بها خاضعاً لأي سلطان سوى الأمر الإلـهي، سواء تمثَّل في سلطان داخلي في شهوات النفوس وأهوائها، أو في سلطان خارجي من عادات وتقاليد الاباء أو سطوة الحكام ورجال الدين، أو أوهام العناصر الطبيعية، فالحرية التي جاء الإسلام يشرعها للناس هي هذه الحرية التي تتضمنها عقيدة التوحيد.
• ومما جاء في سياق ذلك قوله تعالى: ﴿فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [النساء: 65].
فهذه الآية تشرع للتحرر من كل ما سوى الله وحده في حكمه، وتجعل الإيمان رهيناً في تحققه لهذا التحرر الذي أصبح وجهاً من وجوه توحيد الله تعالى.
• ومن ذلك أيضاً ما جاء في قوله تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ مَنْ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً﴾ [الفرقان: 43].
فاتخاذ الهوى إلـهاً من دون الله هو ضرب من العبودية التي جاء الدين يحرِّر الإنسان منها، فإذا لم يتحرر كان ذلك ناقضاً للإيمان بالله فيستحق التشنيع، كالتشنيع على هؤلاء الذين وردت فيهم الآية.
• ومما جاء في ذلك أيضاً قوله (ﷺ): «تعس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة».
فهذا الدعاء على من لم يتحرر من عبودية المال، إنما هو لما يفضي إليه ذلك من قَدْح في توحيد الله تعالى.
إن الإيمان قد نيط في الدين بإرادة حرة يتحمَّل بها الإنسان مسؤولية الاختيار، فأصبح الإيمان بتلك الحرية جزءاً من المعتقد، إذ لا يتم الإيمان الأوفق إلا بها على قاعدة: أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
وعلى أساس هذه المنزلة العقدية للحرية في المنظومة الإسلامية جاءت الأحكام تشرع للإجراءات العملية التي تتحقق بها في الواقع، وهي أحكام في معظمها تتصف بصفة الوجوب الملزم، على معنى أن المسلم ملزم دينيّاً بأن ينفذ تلك الأحكام المتعلقة بالحرية في ذات نفسه، إن كانت من باب الحريات الشخصية، وفي السياق الاجتماعي إن كانت من باب الحريات العامة، وممارسة الحرية وفق المنظور القرآني مقصد شرعي وتطبيق لأحكام الإسلام.
وقد أعطى الله سبحانه وتعالى ثلاث وسائل للإنسان يستطيع من خلالها وبها تحقيق حريته، وهي: العقل والإرادة والاستطاعة، وأما عناصر الحرية فهي: المسؤولية الفردية، ومعرفة الذات، ومعرفة الكون، وتكريم الإنسان.
•  في المبحث الثاني من هذا الكتاب كان الحديث عن حرية التفكير والتعبير، ولم يترك القران الكريم أسلوباً نفسيّاً أو واقعيّاً إلا واتَّبعه من أجل حث الإنسان على التفكير واستعمال عقله بصورة واضحة جلية، ليصل إلى الحقائق والنتائج المؤدية إلى الاقتناع الكامل بهذا الدين، فالمتدبر لآيات القران الكريم يتضح له أن القران جاء دعوة للناس ليتدبروا ويعقلوا ويفقهوا ويتبصروا ويفكروا، فهو دعوة لإعمال العقل والفكر بكامل الحرية دون حجر أو جمود.
• ومن ذلك قوله تعالى: ﴿قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ [الحديد: 17].
• وقوله تعالى: ﴿قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ﴾ [الأنعام: 98].
• وقوله تعالى: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾ [محمد: 24].
والدعوة إلى التفكر في الافاق والأنفس للوصول إلى اليقين ومعرفة الحق واضحة في كتاب الله تعالى العزيز، قال تعالى: ﴿وَفِي الأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ﴾ [الذاريات:20-21].
ولم تكن حرية الفكر مضمونة ومكفولة في الإسلام إلا لأن العقيدة الإسلامية مبنية براهينها على النظر في الكون ودراسته دراسة واعية، حتى يتبع الإنسان الهداية الربانية التي يهتدي بها عن عقل وإقناع، فلا يمكن دراسة هذا الكون دراسة علمية إلا إذا كانت حرية الفكر سليمة، ومن حق الفرد أن يتمتع بهذه الحرية التي حررته من الأوهام والخرافات والوقوع في أثر التقليد الأعمى.
والإسلام يقرر للإنسان أن يفكر فيما شاء وكما يشاء، وهو امن من التعرض للعقاب على هذا التفكير، فإذا فكر الإنسان في أعمال محرمة ولم يأتِ بها فلا شيء عليه، لأن العلة في ذلك أن الشريعة لا تعاقب الإنسان على أحاديث نفسه، ولا تؤاخذه على ما يفكر فيه من قول وفعل محرم، وإنما تؤاخذه على ما اتاه من قول أو فعل محرم، وذلك معنى قول الرسول (ﷺ): «إن الله تجاوز لأمتي عما وسوسَتْ أو حدَّثَتْ به أنفسَها، ما لم تعمل به أو تتكلم».
وأما حرية التعبير عن الرأي، فإن أول تعليم علمه الله تعالى لآدم عليه السلام هو الكلام والتعبير، قال تعالى: ﴿وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا﴾ [البقرة: 31].
وفي المبحث الثالث كان الحديث عن حرية الاعتقاد، فالإسلام يقف بين الأديان والمذاهب شامخاً متميزاً في هذا المبدأ الذي قرر فيه حرية التدين، فهو يعلنها صريحة لا مواربة فيها ولا التواء أن: ﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لاَ انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة:256].
فالإسلام من منطلق الثقة بصدق الدعوة، ورجحان الكفة، وتكامل الرسالة ووضوح الحجة، وانتصاف العقل، وإكمال الأدلة؛ لا يكره أحداً على الدخول في عقيدته، أو الإيمان بدعوته.
وفي هذا المبدأ يتجلى تكريم الله للإنسان، واحترام إرادته وفكره ومشاعره، وترك أمره لنفسه فيما عمله وحساب نفسه، وهذه من أخص خصائص التحرر الإنساني.
إن حرية الاعتقاد هي أول (حقوق الإنسان) التي يثبت بها وصف إنسان، فالذي يسلب إنساناً حرية الاعتقاد، إنما يسلبه إنسانيته ابتداءً.
ومبدأ الإكراه مرفوض من الأصل، ولا يتوقع لأحد يفهم رسالة الإسلام أن يمارسه؛ لأنه يناقض أهداف الرسالة، ولو شاء ربك لخلق هذا الجنس البشري خلقة أخرى، فجعله لا يعرف إلا طريقاً واحداً هو طريق الإيمان كالملائكة مثلاً.
ولم يتبع الإسلام في يوم من الأيام وهو دعوة الحق ما تفعله المذاهب والأحزاب من أساليب الإغراء والتضليل والزخرفة والوعود الكاذبة، بل واجه متَّبعيه بالواقعية والصراحة.
•  وفي المبحث الرابع كان الحديث عن الحريات الشخصية، كحق الحياة،واختيار العمل، وحرية العلم والتعليم، وحق الأمن والسلامة الشخصية، وحق الخصوصية وتحريم التجسس على مساكن الناس، وحق حماية الاتصالات والمراسلات، وحرية التنقل، وحق اللجوء السياسي، وحق التجمع وتكوين الاتحادات والنقابات، وحق التملُّك.