

هذا الكتابُ امتداد لما سبقهُ من موسوعة التاريخ الإسلامي، ابتداءً من عهد النبوة، وعهد الخلافة الراشدة، وعهد الدولة الأموية، ومروراً بدولة السلاجقة، والزنكيين، والأيوبيين، والمماليك، والدولة العثمانية. وقد سميت هذا الكتاب: «عصر الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين محمود الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي»
وهذا الكتاب يتحدث عن الزنكيين من حيث أصول أسرتهم، وعن جدهم آق سنقر، ومكانته لدى السلطان ملكشاه، وسياسته الداخلية والخارجية في حلب وتولي إمارتها، وعن نشأة عماد الدين زنكي، وبزوغ نجمه السياسي، ودور بهاء الدين الشهرزوري في تعيينهِ أميراً على الموصل، وعن أهم صفاته، كالشجاعة، واليقظة، والذكاء، وعدله، وعبادته.
ويتحدث عن السياسة الداخلية لعماد الدين زنكي، والنظم الإدارية والعسكرية، وعلاقته بالخلافة العباسية والسلطنة السلجوقية، وتوسعه في شمال بلاد الشام وإقليم الجزيرة، وعلاقته بالأكراد كبني أيوب حكام تكريت، والأكراد الحميدية، وتكلمت عن جهاده ضد الصليبيين، وتطرقتُ لحال المسلمين قبل مجيئهِ للإمارة، وفتحه للحصون والقلاع، وسعيهِ الحثيث لتوحيد الجبهة الإسلامية، وقيادتها لمقاومة الاحتلال الصليبي. واستطاع عماد الدين بفضل الله ثم بجهودهِ الميمونةِ أن ينتزعَ من الصليبيين إمارة الرُّها؛ التي تأسست في الشرق الإسلامي سنة 491 هـ1097 م بزعامة بدوين الأول، وكان تحريرها عام 539 هـ.
وبعد استشهاد عماد الدين تولى القيادة ابنه البطل المجاهد الشهير نور الدين محمود الشهيد الملك العادل، فذكرت سيرتهُ، وترتيبهُ أوضاع البيت الزنكي مع أخيهِ سيف الدين غازي، واِتفاقهما على توحيد الكلمة، ومناصرة بعضهما البعض ضد الأعداء، وأصبحَ سيف الدين غازي أميرَ الموصل، ونور الدين محمود أميراً على حلب، وتوسعتُ في ذكر مفتاح شخصية نور الدين زنكي، وشعوره بالمسؤولية، وحرصه على تحرير البلاد من الصليبيين، وخوفه من محاسبة الله له، وشدة إيمانه بالله واليوم الآخر. وتميزت شخصيتهُ بمجموعة من الصفات الرفيعة، والأخلاق الحميدة التي ساعدتهُ على تحقيق إنجازاته العظيمة والتي من أهمها: الجدية، والذكاء المتوقد، والشعور بالمسؤولية، والقدرة على مواجهة المشاكل والأحداث، ونزعتهُ للبناء والإعمار، وقوة الشخصية، ومحبتهُ لله، ومحبة الناس لهُ، واللياقةُ البدنية العالية، وتجرُّدهُ، وزهدهُ الكبير.
وتجدر الإشارة أخيراً إلى أن علاقتي الروحية مع نور الدين محمود منذُ كنتُ طالباً بالمدينة المنورة، حيث إنني كنتُ ممن تتلمذ على أشرطة الشيخ الدكتور سفر الحوالي، ومن ضمنها كان الحديث عن نور الدين محمود الشهيد في شريطين، فتعلقت بسيرة هذا القائد الفذ، وقد حث الشيخ في محاضرته طلاب العلم والعلماء على كتابة سيرته، والبحث فيها، وفي إحدى زياراتي للمدينة النبوية بعد تخرجي زرت أستاذنا وشيخنا الدكتور يحيى إبراهيم اليحيى، وحدثني عن نور الدين محمود، وطلب مني أن أبحث في سيرتهِ، فإنها تستحق الدراسة على حدِّ قوله، وازدتُ قناعةً بالموضوع إلا أن انشغالي بالسيرة، وتاريخ صدر الإسلام، ومرحلة الدراسات العليا منعني من تحقيق هذا الهدف النبيل الذي لم يغب عن ذاكرتي، ووجداني، وأصبح من ضمن أهدافي الرئيسية في الحياة، ودخل في أورادي، ودعواتي بأن يوفقني الله لتحقيقه.
أشرتُ في الكتاب إلى أهم معالم التجديد والإصلاح في دولة نور الدين محمود، وكيفَ اتَّخذ من عمر بن عبد العزيز نموذجاً يقتدي بهِ في دولته، فقد اقتنع بأهمية التجارب الإصلاحية في تقويةِ وإثراء المشروع النهضوي، ودورها في إيجاد وصياغة الرؤية اللازمة في نهوض الأمة، وتسلمها القيادة، وكانت من أهم معالم التجديد والنهوض في دولة نور الدين:
1- الحرص على تطبيق الشريعة، وإقامة العدل.
2- حرصه على بناء دولة العقيدة على منهج أهل السنة الجماعة.
بينت في الكتاب كيف استفاد نور الدين من خريجي المدارس النظامية، وتبنَّاهُمْ في مدارس الدولة النورية، وفتح لهم الأبواب لدعم المذهب السنّي، ومناهضة الفكر الشيعي الرافضي، وصبغ الدولة بالكتاب والسنة، ووضع مشروعاً فكرياً ثقافياً عقائدياً تربوياً تعليمياً، استهدف به رعايا دولته، ولم يفرِّق بين علماء الشافعية، والأحناف، والحنابلة والمالكية، وأهل الحديث، وشيوخ التصوُّف السني، وغيرهم من أبناء الأمة، وتحركَ بهم من خلال جبهة عريضة تنضوي تحت راية أهل السنة والجماعة في مقاومة الأخطار الشيعية.
هذا وقد طوَّر نور الدين النظام الإداري لدولته، وحرص على صبغته لدولتهِ، وحرص على صبغتهِ بالصبغة الإسلامية، واعتمدَ في إدارتهِ للشورى، وابتعد عن الانفراد بالقرار بشكل كبير، وقدم المصلحة العامة على الانفعالات، وكان مثالاً رائعاً في الزهد، والتعفف، وبذل المال في الصالح العام، وحرص على توفير الأمن، والخدمات الاجتماعية والمعيشية للرعية، وضمن لهم الحريات العامة، كحرية الرأي، والمحافظة على كرامة الفرد. وبينت أثر الأمانة الكبيرة التي تميَّز بها نور الدين، وحكومتهِ الرشيدة على خزانة الدولة، وأثر الأمن والاستقرار على انتعاش الحركة التجارية، ومساهمة الأثرياء، والمعاهدات، والاتفاقات التي ألزم بها الخصوم لدفع أموالٍ للدولةِ الزنكية.
وكيف كان من سياسة نور الدين الاقتصادية والمؤيدة بالشرع الإسلامي إلغاء الضرائب. وسعى نور الدين محمود إلى جعل مؤسسات الدولة أدوات صالحة في خدمة الجماهير وَسِعَتْ لتغطية شتى الحاجات ابتداءً من قضايا المسكن، والملبس، والمأكل، وانتهاء بقضايا الروح، ومروراً بالحاجات الفكرية، والصحية، والعمرانية، والإنتاجية.
وفي الفصل الأخير من الكتاب تحدثتُ عن سياسة نور الدين الخارجية، وعلاقتهِ مع الخليفة المقتفي لأمر الله والوزير يحيى بن هبيرة والخليفة المستنجد بالله ثم المستضيء بالله، وتكلمتُ عن جهود نور الدين، وأخيه سيف الدين في التصدي للحملة الصليبية الثانية وحمايته لدمشق من الغزاة، وعن سياسته في ضم دمشق، وكيف تعامل مع القوى الإسلامية، والأسر الحاكمة في بلاد الشام والجزيرة والأناضول، وعن سياسته تجاه القوى المسيحية، وعلاقته مع مملكة بيت المقدس، وإمارة الرُّها، وأنطاكية، وطرابلس، وعن المعارك التي خاضها، والحصون التي فتحها، وعن علاقتهِ بالإمبراطورية البيزنطية، واستخدامه لفقه السياسة الشرعية في زعزعة الحلف البيزنطي مع مملكة بيت المقدس، وأنطاكيا ضده.
وأفردتُ المبحث الأخير عن فقه نور الدين في التعامل مع الدولة الفاطمية، فوضحت جذور الشيعة الإسماعيلية، ونشأة الدولة الفاطمية، وتكلمت عن جرائمها في الشمال الأفريقي، ومنع علماء أهل السنة من التدريس، وتعطيل الشرائع، وإسقاط الفرائض، وإزالة آثار خلفاء السنة، ودخول خيولهم المساجد. وكيف تم توحيد مصر والشام والعراق في عهده، وقد تمَّ ذلكَ على يد وزيره الناصر صلاح الدين الذي تدرَّجَ في إلغاء الخلافة الفاطمية، وفق رؤية إستراتيجية نورية وصلاحية مدروسة ومنظمة.
ولقد انتهيتُ من هذا الكتاب يوم الأربعاء الساعة الثانية عشرة، وثماني دقائق من تاريخ 20 شعبان 1427 هـ/ 13 سبتمبر 2006م، والفضل لله من قبل ومن بعد، وأسألهُ سبحانهُ وتعالى بأسمائهِ الحسنى وصفاته العلى أن يجعل عملي لوجهه خالصاً، ولعبادهِ نافعاً...
كتاب « عصر الدولة الزنكية ونجاح المشروع الإسلامي بقيادة نور الدين الشهيد في مقاومة التغلغل الباطني والغزو الصليبي»، متوافر على الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي على الرابط التالي:
https://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/40