أتساءل كيف نعيد قراءة تاريخنا الثقافي بمعزل عن المسلمات؟
استقراء الينابيع المهملة هو جزء من فهم عطالة الفكر العربي اليوم
الأدب لعب لكنه من ألعاب المخاطرة.. ظاهره تسلية وباطنه تفكير
يعيدنا الكاتب التونسي الدكتور نزار شقرون - وهو من طراز خاص- إلى أصحاب الأعمال الموسوعية، فهو مسكون بالإبداع أدبا ونقدا، فهو الشاعر والروائي والناقد الأدبي والناقد الفني يتحرك في معظم أعماله من رؤى وأطروحات ترتبط بشخصية المثقف ودوره النهضوي الفاعل في المجتمع. الدكتور نزار شقرون صدرت له حديثا رواية «أيام الفاطمي المقتول».
«العرب» حاورته حول هذه الرواية وأهم الأفكار التي يطرحها، حيث أكد أن الرواية الجديدة تأتي امتدادا لمشروعه الروائي المستند إلى إعادة قراءة التاريخ الثقافي والحضاري بعيدا عن المسلمات، مؤكدا أن الرواية تنطلق من تساؤلات فلسفية حول كيفية فهم الماضي دون الوقوع في أسر “الماضوية”، معتبرا أن “استقراء الينابيع المهملة” هو مفتاح فهم عوائق الفكر العربي اليوم.
وقال الكاتب نزار شقرون إن الرواية، رغم عنوانها المرتبط بالفترة الفاطمية، تدور في زمننا العربي المعاصر، مستعيدة تلك المرحلة لإثارة أسئلة حول جذور الأزمات الفكرية والاجتماعية التي نعيشها اليوم، منوها بأن الشخصية المحورية، مختار الفاطمي، تمثل صورة المثقف العربي الباحث عن الحقيقة وسط واقع مأزوم، يخوض رحلة استكشاف نقدية تتقاطع مع هموم الفكر العربي بعد “الربيع العربي”.
وقال إن الرواية تسلط الضوء على قضايا الحرية الفكرية والبحث عن الهوية، متجاوزة السرد التاريخي التقليدي إلى استشراف المستقبل عبر بناء سردي يتسم بالجرأة الفكرية والتجريب السردي، حيث يرى شقرون أن الرواية تطالب بإعادة التفكير في الموروث الثقافي والتاريخي. وإلى التفاصيل..
◆ تأتي روايتكم «أيام الفاطمي المقتول»، بعد «بنت سيدي الرايس»(2010) و»الناقوس والمئذنة»(2017)، و»دم الثور»(2019)، و»زول الله في رواية أخت الصفا»(2022).. هل من دوافع فكرية وأدبية وراء هذه الرواية؟ وهل لها علاقة بالرواية السابقة؟
¶ تحديد الدافع أمر جوهري في أي كتابة، ثمة سؤال لا يفتأ يحضر في مغامرتي الأدبية. ولاشك أن السؤال مرتبط بما هو فلسفي وحضاري وأدبي في الآن نفسه، فلا يمكن النظر للسؤال باعتباره مجردا في هويته من الاشتباك بهذا الثالوث، إنه ببساطة تصل حد التركيب: «كيف نعيد قراءة تاريخنا الثقافي بمعزل عن المسلمات» أي أن نشق طريقا بصريا إلى الينابيع التي شكلت حلقات لانعطافاتنا الثقافية دون أن نستخدم عيون القدامى؟ لهذه العودة مخاطر منها إمكانية السقوط في «الماضوية» ولكنها تمنع عن نفسها هذا الشرك، بمجرد أن تكون استعادة نقدية، فاستقراء «الينابيع» المهملة هو جزء من فهم «عطالة» الفكر العربي اليوم وعجزه عن التقدم، إذن فالرهان من السؤال معاصر بلا هوادة. ويمكنني القول بأن هذه الرواية تستمر في حفر ما توصلت إليه رواية «زول الله»، وهي تعمق سؤال «البحث» عن وجه آخر للحقائق، بتنويع سردي مختلف، حيث تظل «حرية التفكير» وخوض التجربة من رهاناتهما معا، فلا معنى لأي وجود بشري دون هذه الحرية، إذ لا يمكن تخيل «كرامة» إنسانية دون حرية. لذلك ففي أغلب رواياتي تأكيد على هذا المقوم باعتباره قيمة جوهرية في حاضرنا، فبسبب شطبها خسرنا «حلقات» التغيير الثقافي في الماضي وفقدنا البصيرة في إدراك تلك «الخطايا» التي ألحقت ضررا بقرون من التفكير ومن الوجود العربي.
◆ يبدو الإطار العام للرواية معنيا بالفترة «الفاطمية» فكيف سارت الرواية في اتجاه استعادة هذه الفترة؟ وكيف اهتديت إلى عنوان الرواية، هل هو مراوغ للقارئ أم دليله إلى اقتفاء أسرار النص؟
¶ لأبدأ من مسألة «المراوغة» و»الدليل»، فالأدب «لعب» لكنه من أنواع ألعاب المخاطرة. ظاهره «تسلية» وباطنه «تفكير» وليس أشقى على الإنسان من أن يفكر في زمن استهلاكي بامتياز. لذلك فبقدر ما يبدو العنوان «تقريريا» لكشفه عن ثلاثية أطراف، تعنى بالبطل وهويته ومصيره، فإنه مخادع، لأن الرواية تضع هذه الأطراف ضمن مساءلة مستمرة، فما حدود استدعاء «الفترة الفاطمية» وما حدود القول ببطولة ما للشخصية، وهل «القتل» هو مصير نهائي، وهل هو حدث مكتمل يحيل على جريمة ارتكبت في حق شخص واحد فحسب؟ وإدا كان العنوان «مخاتلا» فكذلك تكون الإشارات إلى ما هو «فاطمي» في الرواية، فوقائع الرواية تدور في حاضرنا العربي المأزوم. ثمة استدعاء لضرورة التفكير في تلك الفترة من جديد، هذا رهان لا أخفيه، بل أحرض عليه، ولكن هذا الاستدعاء مراوغ أيضا، فعلى القارئ أن يكتشف الطبقات الخفية للنص. لذا فالقارئ مدعو إلى «قص الأثر»، بينما الناقد مدعو إلى لعب دور «الأركيولوجي» الذي يمارس حفرياته في النص بفهم خصوصيته وما يحمله من مرجعيات، وقيم فنية مشروطة بلحظته التاريخية والمجتمعي
◆ وكيف تعكس الشخصية المحورية «مختار الفاطمي» هموم المثقف العربي في زمن «الحداثة»؟
¶ يمكن تنزيل شخصية «مختار الفاطمي» ضمن مدار ما يجتاح النخبة العربية من قضايا، وهو متلبس بجوهر ما ينبغي أن تتلبس به وهو «النقد». إنه يخوض مغامرته بشكل «عجائبي» لكي لا يتخلى عن هذا القادح. سيظل البحث عن أسباب «التخلف» و»جمود العقل» وارتكاس الفعالية الحضارية من خواص تفكيره. إنه يسير خارج إكراهات فكر الطاعة، ويحاول البحث عن «الأصل» وأسباب تهميش «مرحلة» مهمة من تاريخنا الثقافي والحضاري إلى درجة الإلغاء. إنه يسأل بمكر: «ماذا تبقى من الفاطميين» بعد أكثر من قرنين من الهيمنة؟». هناك مثقفون كثيرون يسيطر عليهم هذا الشاغل، إنه صوتهم بالضرورة، وهو مهموم مثلهم إلى حد المخاطرة حين يربط بين وجوده وضرورة التفكير في مجتمع يخاف يقظة الفكر. طبعا لا يمكنني استبعاد نسغ «النقد» من تفكيري الأدبي، وحين أستخدم لفظ «الفكر» فإني أشدد على أن الأدب ليس تسلية وإنما هو قرين أي مشروع فكري يستنهض الكائن في بحثه الدائم عن «كينونته».
◆ «نبش الجذور» كان محورا رئيسيا في الرواية، فما الذي أراد البطل اكتشافه من خلال سفره؟ وهل ترى أن ماضي الأمة يمكن أن يكون طريقا لفهم حاضرها؟
¶ يسعى «البطل» إلى تفكيك البداهات وطرح الأسئلة والمراهنة على قارئ نوعي لا يطمئن كثيرا لواقعه ولا إلى ماضيه الذي شكله القدامى وأحفادهم الذين يعيشون بيننا مغتربين عن الحاضر في ظن منهم بأن «الزمان» مغلق وغير تصاعدي. لذلك هو يسافر في الزمن الحاضر وفي زمن «المستبقل» أيضا، وتلك هي معالم «ديستوبية» الرواية. ومثلما تكون الدهشة منطلق التفكير تعمل الرواية على توسيع رقعة «الإدهاش». لن يكون القارئ أمام أحداث «معقولة» لكن الرواية ستجعله يتوجع كثيرا بسب لامعقولية ما يعيش! ويكون الالتفات إلى «الماضي» في صيغة «متكأ» أو «ذريعة» لأن وقائع رواياتي كلها بنت الحاضر، وشخصياتها وأمكنتها ولغتها مصهورة في اللحظة المعاصرة بما تحويه من واقع متغير. نفع «الماضي» أنه بحاجة إلى إعادة قراءة، وتخصيصا إلى مراجعة، هذا شأن فكري لامحالة، ولكنه مجال لمادة روائية خصبة بعيدا عن «الرواية التاريخية» التي تعتقل بناءها السردي في أبعاد الماضي المختلفة، وإن كانت تقدم له قراءة أخرى لامحالة، حيث لا يتماثل الأدب مع التاريخ.
الربيع العربي
◆ كيف أثر السياق السياسي والاجتماعي لما بعد «الربيع العربي» على السرد العام للرواية؟ كيف عبرت الرواية من خلال شخوصها عن رؤيتك لهذه الحقبة؟
¶ يحتاج هذا السياق إلى تفكر أيضا. سريعا ما سيودع في محطات الماضي رغم قرابته منا. يدور جزء من أحداث الرواية بعيد ما سمي بـ»الربيع العربي»، لتقف على ما يمكن نقده من ظواهر ليست غريبة عما عاشه تاريخنا الثقافي في الماضي. وستعبر الشخصيات باختلافاتها عن تعاطيها مع تلك الفترة. وتفكر الرواية في دائرة «الاختراقات» التي لا تعنى بـ»الثالوث المقدس» بالضرورة، وإنما بـ»آليات الفكر» المنتج لهذا الثالوث، وهذه الآليات ليست مجردة أو متعالية عن التاريخ. في ظاهر الأمر، للرواية نقد لما حدث، وفي بعد قصي، تعتبر ذلك مجرد نتائج لأسباب عميقة أصابت الشخصية العربية بعلل الاغتراب عن زمنها وعن الفعل الحضاري.
◆ هل يمكن اعتبار رحلة مختار الفاطمي نحو الشرق استعارة رمزية للبحث عن الذات العربية أو المثقف العربي الفاعل الذي يقوم بدوره المجتمعي؟
¶ هناك «بحث» مستمر، وهذا ما يتيحه الأدب لأنه لا يفكر داخل الأنساق. ومن لوازم هذا التوجه استنطاق «الحلقات» التاريخية واستخراج ما طمس منها، فحالات الجمود الفكري و»سبات العقل» مردها تشويه وتبخيس وتكفير تلك الحلقات، وأما فكرة «الشرق» فهي مطروحة على سبيل إثارة الجدل في مسلمة أخرى قادها إلينا الفكر الاستشراقي، وهذه الفكرة متلبسة بما هو رمزي، وهي دون شك ترتقي إلى مصاف «الاستعارة. البطل «مختار» شخصية حوارية، لا تعلم مسبقا هدفها، لذلك تسير بحسب مواضعات البحث، وعيها يقوم على الالتفاتة إلى «الآخر» في جميع أبعاده، وإن كانت الرواية في ظاهرها «سيرته»، فهي سيرة الشخصيات التي يعيش بينها ويتعرف إليها وتفعل في تغييره، لأن هويته غير ثابتة أو مكتملة. هذا ما يحاول بعض المثقفين العرب القيام به رغم تفاوت الأطر الاجتماعية، طبعا ثمة موقف من «الإيديولوجيا»، مادامت الدعوة إلى «الحرية الفكرية» جوهرية. لذلك فإننا لن نتحدث عن دور اجتماعي في غياب هذا الأساس، وهذا الدور محكوم بـ»الصراع»، كذلك يقف «مختار» على صراعات مختلفة، ليس أقلها صراعه الداخلي فكريا ونفسيا، مع ماضيه وحاضره.
النقد المرتعش
◆ كيف جمعت بين رؤية نقدية للتاريخ وأحداث خيالية مستقبلية؟ وهل تخشى من تأثير الجرأة الفكرية على تلقي الرواية؟
¶ تقع الرواية في عالم التخييل، وإن كانت تحيل على واقع مخصوص، لذلك تجمع بين النقد للواقع وبين «العجائبي». لعلي دائم الاعتقاد بأن واقعنا «أعجب» من التخييل! ولكن ما يشغلني هو تنشيط الفكر بعيدا عن اليقينيات، هذا ما يجمع بين الفلسفة والأدب عامة، ولكن مزية الأدب أنه حر في التجربة والتجريب، ولهذا فالجرأة مطلب أساسي، وصدقا لا أهاب هذه الجرأة. هل أفضى «النقد» المرتعش إلى التغيير؟ إذا عنيت بالجرأة إثارة الأسئلة وإزالة الغبار عن «انتباهة» القارئ لتاريخه وحاضره، فهذا من خصوصية الرواية. وحين نفكر في القارئ فيعني أن هناك مسؤولية أدبية تجاهه، وهذه الخصوصية ترفض بقاءه في منطقة العتمة. لذا فالجرأة تعني «الاستنارة» لامحالة، ومن يكون ضد «التنوير»؟ تنهض الكتابة الروائية على التجريب ويعني ذلك أنها معنية بالجرأة في اختبار ممكنات البناء السردي، وهذه أولوية، حتى وإن كانت «الأطروحة» مهمة، لذلك سارت الرواية في طريق تجريبي يتقاطع مع تجارب أخرى في الرواية العربية، ويحمل لها مساءلة مستمرة، حيث تكون الكتابة حوارية في مختلف أبعادها، تلك هي مهمة جليلة للأدب في حياتنا المعاصرة.