بين اختلاف الرحمة وافتراق العذاب
باب الريان
02 يونيو 2017 , 08:46ص
علي محي الدين القرة داغي
يتطرق فضيلة الشيخ د.علي القرة داغي الأمين العام للاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، في كتابه الاجتهاد، إلى واحدة من القضايا المهمة بالنسبة للأمة، وتقوم «العرب» بنشر كتاب فضيلته في حلقات على مدار شهر رمضان الفضيل، من أجل تعريف القارئ بهذا الجانب المهم، بما يتضمنه من نقاط يجب التعرف عليها.
قال الشيخ علي محيي الدين القرة داغي في كتابه الاجتهاد، والذي ينشر على حلقات بصحيفة «^» طوال شهر رمضان المعظم «إن الفتوى ليست لكل أحد، وإنما لمن آتاه الله الفقه والحكمة وفصل الخطاب، حيث رأينا أن الصحابة الذين تجاوز عددهم مائة ألف لم يكن بينهم إلا حوالي مائة صحابي، وأن المكثرين أقل من أصابع اليدين، في حين ترى في عصرنا الحاضر: الكل يفتي، الداعية الذي حفظ عدداً من الأحاديث يفتي، بل حتى المهندس والطبيب يفتيان، وسيأتي بيان خطورة الفتوى من غير أهلها».
وقد نقل كلام أبي موسى: «أنه قلّ إمام إلا وله زلة، فإذا ترك لأجل زلته تُرك كثير من الأئمة، وهذا لا ينبغي أن يفعل».
وقال في الإمام الغزالي: «إمام كبير، وما من شرط العالم أن لا يخطئ، رحم الله أبا حامد فأتني بمثله في علومه وفضائله، ولكن لا تنبغي عصمته من الخطأ والغلط».
ولهذا كان يقول بعض العلماء: «إجماعهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة». لذلك فرق الفقهاء بين الاختلاف المشروع الذي لم يترتب عليه افتراق وعداوة وبغضاء، والاختلاف المذموم الذي هو في حقيقته افتراق وتمزق للأمة، قال تعالى: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِن بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ ? وَأُولَ?ئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ}، وقال تعالى: {وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ}، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ}.
وقد وضع بعض العلماء المحققين معياراً للاختلاف المشروع، والاختلاف المذموم الذي يصل إلى الافتراق، وهو أن المشروع هو الخلاف الذي جاء وفق ضوابط الاجتهاد، وآداب الاختلاف، وأن المذموم المحرم هو الذي يؤدي إلى الخصومات والعداوة والبغضاء بين المسلمين، يقول الشاطبي، نقلاً عن بعض المفسرين المحققين في تفسير أمان الفرقة: «كل مسألة حدثت في الإسلام واختلف الناس فيها ولم يورث ذلك الاختلاف بينهم عداوة ولا بغضاء ولا فرقة، علمنا أنها من مسائل الإسلام. وكل مسألة طرأت فأوجبت العداوة والتنافر، والتنابز والقطيعة، علمنا أنها ليست من أمر الدين في شيء، وأنها التي عنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتفسير الآية، وهي قوله تعالى: {إن الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعاً لست منهم في شيء}، فيجب على كل ذي دين وعقل أن يجتنبها، ودليل ذلك قوله تعالى: {واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً}، فإذا اختلفوا فتقاطعوا كان ذلك عن اتباع الهوى، وإذا نظرنا إلى تاريخنا الإسلامي لوجدنا ذلك حقاً، فالصحابة في عصر الخلافة الراشدة اختلفوا في المسائل الفقهية -كما سبق-، ولكنهم لم يفترقوا ولم يصبحوا شيعاً؛ لأنهم كانوا يفسرون الدين بما أذن لهم؛ للوصول إلى حكم الله تعالى في نظرهم، ولم يريدوا تكوين الفرق والحزبية، أما أصحاب الأهواء والجهل فجعلوا آراءهم فرقة في الدين، وتحولوا إلى شيع وفرق متعصبة، كما هو الحال في الخوارج، حيث وصل بهم تعصبهم لآرائهم كما أخبر الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: «يقتلون أهل الإسلام، ويدعون أهل الأوثان».
وفي عصرنا الحاضر تفعل الخوارج الجدد ما هو أشد وأقبح من أسلافهم، حيث يحكمون بكفر مخالفهم من المسلمين، وردّتهم، ثم يقولون: إن قتال المرتدين قبل قتال المشركين، فينطلقون من التكفير إلى التفجير، ويستعملون الشباب المسلم المتحمس في عمليات انتحارية تؤدي إلى قتل من يمكن قتله رجلاً أم امرأة، كبيراً أم صغيراً، عسكرياً أم مدنياً، بل إنهم لم يتركوا لشيء حرمته وأمنه وقدسيته، فقد احتل جهيمان العتيبي مع مجموعته المسماة «الجماعة السلفية المحتسبة» الكعبة المشرفة في مطلع القرن الخامس عشر الهجري، أي في (1/1/1400 الموافق 20/11/1979م) فقد دخل العتيبي زعيم الجماعة، ومحمد عبدالله القحطاني (المهدي المنتظر المزعوم)، ومعهم أكثر من مائتي مسلح الحرم المكي لغرض قلب نظام الحكم، وقتل أولي الأمر الذين تعودوا على أن يكونوا في الحرم بداية السنة الهجرية، ولكن الله تعالى سلم فأفشل خطتهم.